مصر بين زيارتين: من الإسكندرية إلى قلب القاهرة التاريخية
مقالات
د. علي الريامي
كانت زيارتي الأولى إلى مصر أو كما نحب أن نسميها "أم الدنيا" قبل ما يقرب من 22 عاماً، وبالتحديد في العام 2003م، عندما التحقت بدورة تحقيق المخطوطات في جامعة الإسكندرية لمدة ثلاثة أسابيع، يومها كنت مساعد باحث في قسم التاريخ بجامعة السلطان قابوس، لذلك كانت الإسكندرية المحطة الأولى، وقد بقيت فيها مدة الدورة عدا يوم يتيم ذهبت فيه مع زملاء عمانيون براً عبر الطريق الصحراوي إلى القاهرة وقد تضمن برنامج الزيارة يومئذ الأهرامات، والمتحف المصري، وتناول وجبة العشاء في إحدى السفن الفرعونية في نهر النيل
ما علق بذاكرتي للزيارة الأولى قليل جداً، منها على سبيل الذكر: المساءات الجميلة على كورنيش الإسكندرية، وكوبري ستنانلي، ومكتبة الإسكندرية الشهيرة، ومحطة الرمل، وأكشاك الكتب، والمنشية بدءاً من شارع الجندي المجهول، وشارع فرنسا، وصولاً إلى شارع السبع بنات، في الإسكندرية، يشد بصرك التصميم المعماري الجميل، خاصة الطراز الأوروبي الإيطالي واليوناني، ومما أتذكره تبادل الأحاديث مع سائقي التاكسي عندما يسألوني "من فين البيه" كنت أقول لهم من اليمن-وهذا صحيح لأن جذوري القبلية الأولى من اليمن-، وكانوا يردون "أنتم أجدع ناس وغلابة مثلنا".. في مصر تدهشك البساطة، والنكتة المضحكة بالفطرة، وسرعة البديهة لدى المصريين في مختلف المواقف.
جاءت زيارتي الثانية لمصر - بعد انقطاع طويل كما – هذه المرة بهدف المشاركة في المؤتمر الخامس والعشرين لاتحاد المؤرخين العرب في القاهرة برفقة الزميل الدكتور سليم الهنائي من جامعة نزوى، ولأن لنا زملاء رائعون من الأخوة المصريين في الإسكندرية، عقدنا العزم على قضاء يوم في الإسكندرية ومنها ننطلق إلى القاهرة. وصلنا إلى مطار برج العرب بعد منتصف ليل السابع عشر من نوفمبر، ووصلنا إلى فندق جولدن توليب مكان الإقامة، عند الثانية صباحاً بتوقيت القاهرة، ومع إشراقة صباح ذلك اليوم كان الدكتور عصام السعيد - وهو أستاذ التاريخ القديم في جامعة الإسكندرية، كان قد قضى بضع سنوات زميلاً عزيزاً لنا في قسم التاريخ بجامعة السلطان قابوس- قد أعد لنا برنامج فسحة خفيفة على كورنيش الإسكندرية.
استقبال البحر والذاكرة
في صباح يوم التاسع عشر من نوفمبر، كان البحر أول من صافح يومنا في ذلك اليوم كان الهواء عليلًا، وأمواج البحر تلامس الشاطئ برفق وحنان، لا يكدرها سوى أبواق السيارات. واصلنا السير ونحن نتبادل أطراف الحديث عما تشهده المدينة من نمو عمراني يزحف باتجاه البحر، حيث تقلصت المساحات العامة في مقابل زيادة مضطردة لمنشآت خرسانية ومقاهي متراصة على حافة الشاطئ الوادع.. مررنا بكوبري ستانلي، ذلك الجسر الشهير وكأنه شرفة طويلة تطل على البحر..
متحف المجوهرات الملكية
توجهنا إلى منطقة زيزينيا لزيارة متحف المجوهرات الملكية، -ومبنى المتحف حسب ما أفادت به الأستاذة سارة المرشدة السياحية بالمتحف- كان في الأصل قصراً شيدته الأميرة زينب هانم فهمي عام 1919م لابنتها الأميرة فاطمة الزهراء (الأميرة فاطمة حيدر) التي أكملت بناءه عام 1923م، وأقامت به، وقد صمم المبنى على الطراز المعماري الأوروبي في القرن التاسع عشر، وبعد ثورة 1952م تم مصادرته، وفي العام 1986 -في عهد الرئيس مبارك- تم تحويله إلى متحف ليضم المجوهرات الملكية النادرة للأسرة الملكية التي حكمت مصر.
المبنى يجسد الفخامة في عهد الملكية، وما إن تلج إلى الداخل حتى تبدأ مقتنيات القصر بسرد حكاية المقتنيات الخاصة للملوك والأمراء والأميرات من تيجان وقلائد وأوسمة، ومجوهرات، وأواني مذّهبة، وغير ذلك الكثير من المقتنيات الشخصية لملوك وأمراء وأميرات، رحلوا، وبقت مقتنياتهم شاهدة على حياة مترفة باذخة.
وأنت تمر بين القاعات تدهشك الأسقف المزخرفة ورسومات الجدران والأبواب بديعة الصنعة، والخزانات الزجاجية التي تحتضن القطع الملكية الفريدة، شعرت حينها أنني لا أبصر مجرد مجوهرات، ومقتنيات ملكية، بل أقرأ فصلًا من فصول تاريخ مصر محمد علي باشا، ومصر الخديوية.
مكتبة الإسكندرية وندوة المرأة في تراث العلوم والفنون الإسلامية
انتقلنا من عالم المجوهرات إلى عالم المعرفة، إلى مكتبة الإسكندرية، هذا الصرح الثقافي الضخم، أيقونة المكتبات وقد أضحى معلماً تاريخيا وحضارياً من معالم مدينة الإسكندرية، بل أنه قبلة سياحية لا تكتمل زيارة الإسكندرية دون زيارته.
مكتبة الإسكندرية ليست مكتبة لعرض الكتب فحسب، وإنما تضم العديد من المتاحف الدائمة: متحف السادات، متحف الآثار، متحف المخطوطات، ومتحف تاريخ العلوم، بالإضافة إلى قاعات عرض مقتنيات كبار الكتاب المصريين المبدعين في عالم الفكر والأدب والسياسة والفن، مثل مقتنيات الأديب الكبير الراحل نجيب محفوظ، ومحمد حسنين هيكل، وعالم شادي عبد السلام، والمعرض الدائم لمحي الدين حسين.
في المكتبة حظينا بجولة فريدة برفقة المرشدين السياحيين طفنا سريعاً بين أجنحتها المختلفة، وتعرّفنا على أهم أقسامها ومعارضها الفنية والمعرفية. لقد بدا لي المكان كمدينة صغيرة، لكنها عظيمة بما تحتويه من مقتنيات نادرة تحت سقف واحد، كنتُ أراقب تفاصيل التصميم المعماري الفريد بردهاته الواسعة، والضوء المتسلل من السقف الذي يأخذ شكل زهرة اللوتس، لهذا حتماً سيشعر الزائر لمكتبة الإسكندرية بأنها ليست مجرد مكتبة، بل مساحة مفتوحة للحوار مع المعرفة بكل لغاتها.
وعلى هامش زيارة مكتبة الإسكندرية حضرنا إحدى الجلسات العلمية ضمن ندوة "المرأة في تراث العلوم والفنون الإسلامية"، وهي تجربة أضافت لرحلتنا بعدًا فكريًا وثقافيًا حيث كان ضمن المشاركين في الندوة الأستاذ الدكتور إبراهيم سلامة، الذي تجمعني به علاقة صداقة تمتد لعقدين من الزمان، عندما كان أستاذاً بقسم التاريخ في جامعة السلطان قابوس وكذلك الأستاذ الدكتور حاتم الطحاوي، الذي عمل أستاذاً زائراً، وأحد كتاب مجلة التسامح التي أخذت مسمى التفاهم بعد ذلك، وقد كانت تصدر عن وزارة الأوقاف والشؤون الدينية.
المساء الإسكندراني:
قبيل الغروب، اصطحبنا الدكتور ياسر مصطفى في جولة سريعة إلى الأسواق القريبة من الشاطئ، وكان برفقتنا ابنه مصطفى، لتبدأ واحدة من أكثر لحظات الرحلة قربًا من روح المدينة وحياتها اليومية.. امتدّت خطواتنا بين أكشاك الباعة على طول الطريق، ولا سيما أكشاك الكتب التي شدّت انتباهي بشدة؛ كتبٌ مصطفة بعناية، وعناوين منوّعة تعكس ذائقة أهل الإسكندرية واهتمامهم بالقراءة والثقافة، كانت حركة الناس من حولنا لا تهدأ؛ باعة ينادون على بضاعتهم، متسوّقون يتنقلون بين المحلات، وأُسر تقضي وقتها في نزهة مسائية لطيفة على طول الشاطئ.
تابعنا السير حذاء الشاطئ حتى وصلنا إلى قلعة قايتباي، التي بدت شامخة بعلو ارتفاعها، شيدها السلطان الأشرف أبو النصر قايتباى المحمودي بين عامي (882-884هـ/ 1477م - 1479م)، وكانت تعد من أهم الحصون الدفاعية على ساحل البحر الأبيض المتوسط، اكتفينا بمشاهدتها من الخارج دون الدخول إليها بسبب انتهاء وقت الزيارة، لكن مجرد المرور بجانبها يمنح الزائر إحساسًا بعراقة المكان وهيبة تاريخه.
في طريق عودتنا، وبين صوت الأمواج ورائحة البحر، توقفنا عند أحد الباعة وتناولنا الذرة المشوية على الفحم، بعد ذلك اتجهنا إلى أحد المطاعم المعروفة والمتخصصة في تقديم الحمام المحشي، وهو مطعم هرم الحمام، حيث ختمنا هذه الأمسية الدافئة بعشاء مصري أصيل، جمع بين طيبة المُضيفين ولذة الطعام وجمال الصحبة.
الطريق إلى القاهرة:
في صباح يوم الأربعاء التاسع عشر من نوفمبر، كنا على موعد مع السائق الذي سيتولى نقلنا من الإسكندرية إلى القاهرة. غادرنا الفندق باكراً في تمام الساعة السادسة صباحًا، كانت الشوارع هادئة والطريق شبه خالٍ من الازدحام، مما جعل الرحلة مريحة جداً، وخلال سيرنا على الطريق، لفت انتباهي التطوّر الواضح في البنية التحتية الخاصة بالطرق السريعة؛ مسارات منظمة، وإشارات إرشادية واضحة، وشعور عام بأن هناك عناية حقيقية بقطاع النقل البري. توقفنا في منتصف الطريق عند إحدى محطات الاستراحة على الطريق، كانت نظيفة وجميلة ومهيأة لخدمة المسافرين بشكل جيد، تناولنا الشاي مع شيء من البسكويت، ثم استكملنا الطريق إلى القاهرة.
مع دخولنا القاهرة بدا لنا صرح المتحف الكبير، المعلم الحضاري الجديد وقد افتتح حديثاً، صمم المتحف ليعكس عراقة هذا البلد الغني بالآثار التي تعد ثروة لا تقدر بثمن، كان من أمنيات الزيارة أن نحظى بفرصة زيارته، غير أن ضيق الوقت حال دون ذلك للأسف الشديد، وفي ذات الوقت ستبقى هذه الأمنية قيد التنفيذ في المستقبل إن شاء الله.
توجّهنا أولًا إلى مقر الإقامة لوضع الحقائب، ثم غادرنا مباشرة إلى مقر اتحاد المؤرخين العرب، لحضور جلسة الافتتاح، إذ كان الهدف الأساسي من زيارتنا هو المشاركة في المؤتمر الخامس والعشرين لاتحاد المؤرخين العرب، والذي خُصص هذا العام لموضوع:
"الغرب وقضايا العرب، كان في استقبالنا الأستاذ الدكتور أحمد الشربيني، رئيس الاتحاد، والأستاذ الدكتور عبد الحميد شلبي، رئيس اللجنة العلمية للمؤتمر، كما أتيح لنا خلال هذا اليوم اللقاء بعدد من الباحثين والمؤرخين العرب القادمين من مختلف الدول العربية ودول الخليج العربية، فكان الجو علميًا وثقافيًا بامتياز، يعكس أهمية هذا الحدث في جمع المختصين بقضايا التاريخ والفكر العربي المعاصر، امتد انعقاد المؤتمر على مدار يومين، 19 و20 نوفمبر، وتنوعت جلساته بين محاور تاريخية وفكرية تعالج العلاقة بين الغرب وقضايا العرب من زوايا متعددة.
في اليوم الثاني من المؤتمر، شاركتُ في الجلسة الأولى بورقة بحثية حملت عنوان: "بريطانيا وثورات الداخل العُماني 1868–1920"، وقد مثّلت هذه المشاركة أول إسهام علمي لي تحت مظلة الاتحاد، بعد انضمامي حديثًا إلى عضويته، وفي هذه الجلسة أيضا قدم زميلي الدكتور سليم الهنائي ورقة بحثية تناولت موضوع الإرساليات الغربية وخدماتها الطبية في عُمان من 1909-1970م. لقد أتاحت هذه المشاركة لي فرصة ثمينة لتجاذب أطراف الحديث والنقاش البناء مع نخبة من المتخصصين في التاريخ العربي، لقد كانت فرصة بالنسبة لي للتعريف بجزء مهم من تاريخ عُمان الحديث وعلاقتها وتفاعلها مع القوى الدولية في حقبة حساسة من تاريخ العرب الحديث، ولطالما كانت العلاقة بين الشرق والغرب وبالأخص بين الغرب والعرب، علاقة معقدة ومتشابكة فكرياً وسياسياً واقتصاديا، ولا تزال ارتدادات تلك العلاقة ماثلة في التاريخ الراهن.
في قلب القاهرة التاريخية:
مع ختام جلسات اليوم الثاني من المؤتمر والجلسة الختامية، اصطحبنا الأستاذ الدكتور عبد الحميد شلبي من مقر إقامتنا في التجمع الأول بالقاهرة الجديدة في جولة مسائية سريعة إلى مصر القديمة، حيث القلب النابض بالحياة وعبق التاريخ، عبرنا طريق صلاح سالم، مرورًا بمقابر الدرّاسة(وتسمى مقابر الغفير)، والتي كانت قد بنيت في صحراء المماليك وتتضمن الكثير من المقابر التاريخية التي تعود إلى العصر المملوكي، وأسرة محمد علي، وفيها مدافن العديد من الشخصيات الفكرية والسياسية، ثم عبرنا نفق الأزهر(طوله حوالي 2.7 كم)، وفي نهايته من جهة اليمين تقع حديثة الأزبكية التي بها سور الأزبكية الشهير ببيع الكتب، إلى أن دخلنا وسط البلد(القاهرة الخديوية) إلى كورنيش النيل والجزيرة، وبرج القاهرة، والنادي الأهلي، ومع كل محطة من هذه المحطات، كان الدكتور شلبي يقدم لنا قراءة حيّة لذاكرة المكان.
كانت المحطة الأخيرة في هذه الجولة الليلية إلى منطقة الأزهر والحسين، ومن جوار مسجد الحسين، دخلنا إلى سوق خان الخليلي، سوق القاهرة العريق، حيث يزدحم المكان بالزوار والتجار، وتمتزج روائح القهوة والشاي بالنعناع والسحلب مع أصوات الباعة، جلسنا في مقهى الفيشاوي الشهير، وتناولنا الشاي بالنعناع في أجواء ذات طابع تراثي، حيث الطاولات الخشبية والديكورات تروي جزءًا من حكايات وتاريخ المدينة، بعد ذلك، استكملنا الجولة سيرًا على الأقدام إلى شارع المعز، أحد أهم شوارع القاهرة الإسلامية، والتقطنا الصور عند "سبيل وكتاب عبد الرحمن كتخدا" شيده الأمير عبد الرحمن كتخدا عام 1157هـ/ 1744م على طراز يمزج بين العمارة العثمانية والمملوكية وهو عبارة حجرة لإمداد المارة بمياه الشرب وفي الأعلى منه حجرة لتعليم الأطفال مبادئ القراءة والكتابة. ويعرف اختصارا بسبيل كُتّاب.
لقد بدت مصر القديمة خلال هذه الجولة أشبه بمتحف مفتوح للعمارة الإسلامية؛ حيث تتجاور معالم العصر الفاطمي مثل جامع الحسين والأزهر الشريف، مع روائع العمارة الأيوبية والمملوكية، ومن أبرزها: مسجد ابن طولون، مسجد الحاكم بأمر الله، جامع المنصور قلاوون، مسجد وضريح قايتباي، ومسجد السلطان حسن.
مصر الجديدة والصحبة الطيبة:
قضينا اليوم الأخير قبل العودة بصحبة مجموعة من الزملاء الذين تعرّفنا عليهم عن طريق صديق عُماني هو ناصر الهادي من ولاية العامرات، صادف وجوده في القاهرة، مر علينا وبصحبته الدكتور عبّاس والدكتور كرم، حيث تناولنا الغداء في مطعم قصر الكبابجي في مصر الجديدة، وهو من المطاعم الراقية والمشهورة، يقدم أطباقاً مميزة من المشويات المصرية، والملوخية الطازجة، وبعد الغداء توجهنا إلى كايرو فستيفال، وهو أحد المجمّعات التجارية الكبيرة في مصر الجديدة، تجوّلنا في أرجائه، واطلعنا على ما يضمه من محلات ومقاهي جميلة في الساحة الخارجية حيث النوافير الراقصة على أنغام الموسيقى.
ختاماً بدت لي مصر الجديدة مدينة حديثة الطابع، ذات طراز عمراني شبه موحّد، وشوارع واسعة، وبنية تحتية حديثة، ما ترك في نفسي انطباعًا جميلًا عن تطور البلد والتناغم بين ماضي القاهرة العريق وحاضرها الحديث، وفي تلك الأجواء تذكرت مقولة للمستشرق ستانلي لين بول الذي أحب مصر كثيرا وكتب عنها كتابه المهم "الحياة الاجتماعية في مصر: وصف للبلد وأهلها، وقد ترجمه إلى العربية ماجد محمد فتحي أبو بكر، حيث قال "الحلاوة والنور في مصر وأهلها".


