الوصال - بعد كتب الوثائقيات دائماً ما أبحث عن الروايات التاريخية الواقعة في حقبة زمنية تروي أحداث وقعت في الماضي استشف منها واقع تلك الحقبة وتفاصيل الحياة آنذاك. كيف كانوا يعيشون؟ وماذا يفعلون؟ وما هي اهتماماتهم؟ وكيف يقضون يومهم؟ وما هو مصدر دخلهم؟ فكما استمتع بالأحداث أغذي مخيلتي بواقع ذلك الزمن لذا من يعرفني يجد أن مكتبتي أمتلئت بهذه الروايات وخاصة المترجمة من لغات أخرى. وجدت في هذه الروايات وخاصة الواقعة في أوربا وأمريكا الكثير من الأحداث التي تعيشها الأمة العربية اليوم بينما كان الأوربيون قد مروا بها منذ قرون (الزمن يعيد نفسه في بقعة أخرى من العالم).


هذه المرة كانت التجربة مختلفة بدلاً من أن أبحث عن رواية تاريخية وجدت نفسي أعيش في أروقة التاريخ مستمتعة بكل تفاصيله. فما أن عرفت بأنه تم افتتاح أكبر مكتبة في إسطنبول كانت ثكنة عسكرية لم أتردد لزيارتها. وهنا بدأت أعيش التاريخ بدل من قـراءته. ما أن وطئت أقدامي حي المكتبة قبل دخولها تردد في مخيلتي أصوات الجيش وهم يتجولون في الأنحاء. حيث كانت مكتبة رامي التي أفتتحها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في يناير 2023م، عبارة عن ثكنة عسكرية شهدت العديد من الأحداث العسكرية العثمانية. بناها الوزير الأول رامي محمد باشا في القرن الثامن عشر وإليه يُنسب اسمها واسم الحي الذي تقع فيه وذلك في عهد السلطان مصطفي الثالث.


دخلت المكتبة وبدأت أصوات ضرب أقدام الجيش وهم يؤدون تدريباتهم العسكرية تقترب إلى مسمعي وكأني أعيش قبل ما يقارب 300 سنة حيث بنيت ثكنة رامي، المكان يعود بك إلى التاريخ طوعاً، الجدران الحجربة والنوافذ الصغيرة ذات الأرفف، رائحة التراب، الممرات المحدود المساحة والممتدة على مد البصر، الأسقف الخشبية المليئة بالذكريات والشاهدة على الأحداث، جميع التفاصيل تعود بك إلى الحروب التي خاضتها الدول العثمانية. وفي قاعات الكتب تبادر إلى ذهني أماكن أسرة الجيش الحديدية ذات الطابقين وحديثهم الليلي قبل أن يخلدوا للنوم ووقع صحونهم وملاعقهم اثناء الأكل، لم يكن يعرفوا أن هذا المكان الذي سجل بطولاتهم سيتحول إلى مركز ثقافي ولكن يحمل ذكرياتهم وذكريات قادتهم الذين خصصت مكاتبهم التي أداروا منها المعركة العثمانية الروسية 1928م إلى أماكن للبحوث والدوريات العلمية وكتب اللغات الأخرى. وفي نهاية الممر تشتم رائحة الطعام العثماني وهو يُطبخ في المراجل الضخمة والطهاة وهم يرمون بالأخشاب لزيادة النار وما أن دخلت للمكان وجدته مكتبة شرائية.


في القاعات الكبرى التي كانت تُدرّس منها العلوم العسكرية عندما أنشئت مدرسة فنون الحربية المنصورة وهي واحدة من أهم مؤسسات التعليم العسكري في عهد السلطان محمود الثاني، أصبحت الآن هذه القاعات أماكن للندوات والمحاضرات والفعاليات الثقافية المختلفة. كما تفوح رائحة الأدوية في غرف التداوي من الأمراض المعدية التي أصيب بها الجيش والتي حولت في المكتبة لأغراض تخزين الكتب التي يصل عددها إلى أكثر من مليوني كتاب منها مليون كتاب نادر بحسب موقع TRT عربي.


وما أن تخرج للساحة الكبيرة الواقعة في منتصف المبنى وتحيط بها مباني الثكنة تستوقفك المباني الواقعة تحت الأرض في ماذا كانت تستخدم؟ قد تكون مخازن للأسلحة أو ملاجيء للجيش اثناء للهجمات وأوقات الحروب، اليوم هي مقاهي للقهوة ومطاعم. شريط تاريخ الثكنة لا ينتهي هنا فكل زاوية تحكي قصة منذ زمن بعيد.


في عام 1980م انتهت وظيفتها كثكنة عسكرية وتعددت استخداماتها بعد ذلك كمكان لبيع وتوزيع الأغذية، وملعب لكرة القدم وأخيراً بعد الحروب استقرت لنشر السلام من خلال المعرفة لتكون مكتبة ومركز ثقافي باسم مكتبة رامي أو كما تسمى بالتركية (Rami Kütüphanesi).

--:--
--:--
استمع للراديو