الوصال - مصطفى المعمري 

تمثل المؤسسات التعليمية، وفي مقدمتها الجامعات والكليات، في سلطنة عمان البيئة الحاضنة والرعاية للمشاريع البحثية والابتكارية والمبادرات الطلابية، سواء كانت ذات طابع تجاري أو علمي. وتعد هذه المؤسسات ملاذا خصبا للإبداع والتميز، حيث يجد آلاف الطلبة والباحثين والمبتكرين فيها الفرصة لتطوير أفكارهم ومشاريعهم ومهاراتهم، بما يسهم في إنتاج أفكار رائدة ونوعية في أهدافها وتوجهاتها لتكون مشاريعا وطنية قابلة للتنفيذ والنمو.

لقد أثبتت الكثير من هذه الأفكار والابتكارات والبحوث التي قدمها أبناء عمان جودتها وجدواها من خلال حصولها على براءات اختراع وجوائز إقليمية ودولية أثبتت علو شأنها ومكانتها، ومع ذلك، فإن عدداً كبيراً من هذه المشاريع انتهى به الحال ليكون حبيس الأدراج، ليس لضعف فيها، لكن بسبب غياب التشجيع والدعم المؤسسي والرؤية الاستراتيجية الطموحة التي تضمن استدامتها واستثمارها لتكون مشاريع فاعلة تسهم في النهوض بالاقتصاد الوطني، والمشاريع البحثية والمجتمعية.

إن البحث العلمي والابتكار وريادة الأعمال ليست مجالات ترفٍ فكري أو أكاديمي، بل هي أدوات جوهرية لتحقيق التنمية المستدامة ورفع مستوى التنافسية الاقتصادية للدول. وقد أدركت العديد من الدول المتقدمة والناشئة هذا الأمر، فبادرت إلى تأسيس مؤسسات متخصصة تعنى بدعم الباحثين والمبتكرين وتوفر لهم الموارد التي تنهض بمشاريعهم، بما في ذلك التمويل والتدريب والبيئة البحثية التقنية المناسبة، مما أوجد لديها قطاعاً معرفيا وبحثيا متقدما يسهم في الناتج المحلي الإجمالي ويوفر فرص عمل جاذبة ومشجعة.

الدول التي تستثمر بسخاء في البحث العلمي ومشاريع الابتكار وريادة الأعمال تدرك أن مخرجات هذا القطاع تمثل ركيزة أساسية في بناء اقتصاد المعرفة، فهي تخصص نسبا كبيرة من موازناتها وعائداتها لهذا القطاع، وتضعه في صلب استراتيجياتها التنموية. ولهذا السبب، نجد أن الجامعات ومراكز البحث العلمي في هذه الدول تنتج المعرفة وتطور التكنولوجيا وتعمل على حل مشكلات واقعية تمس حياة الناس، كما تسهم في إيجاد حلول للتحديات البيئية والاقتصادية والاجتماعية ، في المقابل، لا تزال دول عربية عديدة بما فيها سلطنة عمان بحاجة إلى تعزيز حضورها هذا القطاع بشكل أوسع وأعمق ،مستفيدة من الفرص والمجالات المتاحة ،ويوظف الموارد والمقومات واستثمارها بما يمثل قيمة مضافة على مكونات الدولة ومقدراتها الاقتصادية، والتنموية، والثقافة، والمجتمعية.

فعلى الرغم من وجود جهود ومبادرات من قبل بعض المؤسسات الحكومية والخاصة والجامعات في سلطنة عمان، إلا أن تلك الجهود لا تزال محدودة مقارنة بالطموحات المرجوة، وتتطلب تنسيقا وتكاملا أكثر وضوحا بين الجهات المعنية، عبر تمكين هذه المؤسسات والجامعات، وتسخير الإمكانات التي من شـأنها تحقيق الأهداف والتوجهات ضمن رؤية عمان 2040.

لقد بدأت بعض الشركات والجامعات العمانية بخطوات إيجابية تتمثل في إطلاق برامج لرعاية المشاريع الطلابية، وتأسيس حاضنات الأعمال، والاستثمار في الكفاءات العمانية من خلال التدريب والتأهيل. كما شهدنا تعاونا بين بعض الجهات المحلية ومراكز بحثية إقليمية وعالمية، مما أسهم في ظهور نتائج واعدة في عدد من القطاعات الحيوية، لكن الطموح لا يقف عند هذا الحد. المطلوب اليوم هو وجود رؤية وطنية شاملة تتبناها جهة رسمية تتمتع بصلاحيات واضحة لرسم السياسات ومتابعة التنفيذ، بحيث تكون هذه الرؤية مرتبطة بخطط تنموية مدروسة تستهدف دعم الابتكار وتطوير البنية التحتية للبحث العلمي، وتوسيع نطاق التمويل المخصص لهذا القطاع، وتشجيع القطاع الخاص على المشاركة الفاعلة فيه، عبر الحوافز والتسهيلات.

كما أن تبني مبدأ "الاقتصاد القائم على المعرفة" يتطلب أن نعيد التفكير في طريقة دعم المشاريع الطلابية والابتكارية، وألا نكتفي باحتضان مؤقت أو تمويل محدود، بل نعمل على توفير منظومة متكاملة من التشريعات والمؤسسات والشراكات تضمن تحويل هذه المشاريع إلى منتجات وخدمات ذات قيمة مضافة للاقتصاد الوطني.

إن مستقبل التنمية في سلطنة عمان، كما في باقي دول العالم، يعتمد على مدى قدرتها على وتوفير بيئة محفزة للبحث العلمي والابتكار وريادة الأعمال، وهذا لن يتحقق إلا من خلال تضافر الجهود بين القطاعين العام والخاص، والجامعات، ومؤسسات المجتمع المدني، وتبني سياسات تعليمية وبحثية تشجع الإبداع وتدعم المبادرات الشبابية، وتمنح الموهوبين الفرصة لتحقيق أحلامهم والمساهمة في بناء وطنهم، إذا ما أردنا بالفعل أن نكون جزءا فاعلا من هذا العالم المتغير، فعلينا أن نؤمن بأن دعم الباحثين والمبتكرين ليس خيارا، بل ضرورة وطنية تمليها مصلحة الأجيال القادمة، وتفرضها تحديات المرحلة القادمة.

--:--
--:--
استمع للراديو