عمانيون .. بين ذاكرتين
الوصال - علي الريامي
لطالما كانت الذاكرة العمانية حبلى بالكثير من الأحداث المفصلية، وهذا أمر طبيعي لبلد يملك ذاكرة تاريخية تمتد لخمسة آلاف عام، قد يخيل لنا إمكانية النسيان، لكن في الحقيقة هي ذاكرة مخبوءة في العقل الباطن، فكما يقول هنري برغسون: " إن الذكريات التي كنا نعتقد أنها ذهبت تعود من جديد بدقة جلية"، وإذا كان حالنا هكذا مع الذاكرة طويلة الأمد فكيف الحال بالذاكرة القريبة.
قد لا يكون مواليد السبعينيات قد استوعبوا بشكل كاف كيف كان حال أوضاع عُمان قبل الثالث والعشرين من يوليو من عام 1970، وإن عاشوا جزءاً مهماً من أحداث ذلك العصر، بينما جيل الأجداد والآباء يدركون تماماً حجم التحول الذي حدث، ذلك التحول قد عُمّد بالدماء الزكية والتضحيات الكبيرة ليبقى هذا الوطن آمناً مستقراً ليغدو بعد ذلك متقدماً ومزدهراً، آخذاً بأسباب التطور، وبعوامل البناء والنماء، وهو ما بدا واضحاً للعيان.
خمسون عاماً بعد السبعين كانت كفيلة بإعادة البعث وإحياء الأمل لشعب تجري في عروقه معاني الصبر والإرادة، وشغف التكيف والإبداع، وسوّق عبر تعاملاته سمت الأخلاق المحمدية، حيث لم يكن دعاء الحبيب محمد (صلى الله عليه وسلم) لأهل عُمان محض رواية وإنما عن قناعة ويقين حين قال (صلى الله عليه وسلم): "لو أن أهل عمان أتوك ما سبوك ولا ضربوك".
أعلم أننا لسنا شعبا ملائكيا، ولكن الصورة الكلية تشي دائماً بدماثة الأخلاق عند العمانيين، وتثبت دائماً مواقف ومبادئ ثابتة من القضايا الإنسانية، وهذا ما نراه ماثلاً اليوم في مواقفهم الرسمية والشعبية مما يحدث في غزة، وقبلها في مواطن عديدة، مناصرين للحقوق وداعمين للمشترك الإنساني، ذلك هو إرثنا الممتد عبر الأزمان، ورصيدنا الذي نعتزّ به؛ ليبقى شاهداً في صفحات التاريخ الذي يفتخر به، لا ذلك التاريخ الذي يتبرأ منه.
ما بعد العاشر من يناير 2020 ذاكرة أخرى تشكلت لكنها ذاكرة من الواضح أنها تستمد وتستلهم مما قبلها من إرث عظيم، وذلك الإرث هو زاد ومعين ويشعل شمعة أخرى على طريق التقدم والنماء بروح وثّابة ونفس جديد وهو ما قد اصطلح عليه "عهد النهضة المتجددة"، فكما يقال من لا يتجدد يتقادم، و هذا يقودنا إلى الحدث المهم في تاريخ عمان المعاصر والمتمثل في انتقال الحكم الى جلالة السلطان هيثم بن طارق ــ حفظه الله ــ في الحادي عشر من يناير 2020، لتبدأ حقبة أخرى تستقرئ وتراجع ما قد سبق، وتخطط لما هو قادم، كل ذلك أتى في ظروف استثنائية، وأزمة اقتصادية كانت مقلقة إلى حد كبير، ثم زاد الوضع سوءا جائحة كوفيد_19، فضلا عما كان يدور حولنا إقليمياً ودولياً من أزمات مؤثرة، يصيبنا شررها بشكل أو بآخر، وتؤثر فينا بصورة غير مباشرة مهما كنّا بعيدين عن ساحاتها.
كل تلك المعطيات والمتغيرات كانت مقلقة بالفعل، خاصة مع تطبيق سياسة التوازن المالي التي كانت أقرب ما تكون إلى سياسة "شد الأحزمة" للخروج من عنق الزجاجة، وهو تحدٍ لا يستوعبه إلا من يفهم كواليس سياسة التعامل مع الداخل بعين الحكمة، ومع الخارج بعين اليقظة.
من ولد عام 2020 ستتشكل ذاكرته شيئاً فشيئاً، وأكاد أجزم أنه لن يكون منفصلاً عن ذاكرة من سبقه، لكنه حتماً سيبني ذاكرته الخاصة بجيله؛ فحجم التحول من حولنا يبدو كبيراً جداً.. ذاكرة ستبنى تحت تأثير الذكاء الاصطناعي، وربما نظام عالمي جديد بدأت ملامحه في التشكل؛ فالتاريخ يعلمنا مع اشتداد الأزمات شيئا ما يخرج من شرنقة الألم إلى الأمل.