الهجرة النبوية الشريفة: من البلاء إلى البناء
يحتفل المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها بالعام الهجري الجديد 1446هـ، في ظروف استثنائية غير مسبوقة، خاصة مع استمرار حرب الإبادة والتطهير العرقي والتهجير القسري في غزة من قبل الكيان الصهيوني الإحلالي
الوصال - يحتفل المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها بالعام الهجري الجديد 1446هـ، في ظروف استثنائية غير مسبوقة، خاصة مع استمرار حرب الإبادة والتطهير العرقي والتهجير القسري في غزة من قبل الكيان الصهيوني الإحلالي مدعوماً من قوى الشر العالمية الإمبريالية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها من الدول الغربية، ومن سار في ركابهم الاستبدادي، وقد كشفت أحداث ما بعد السابع من أكتوبر حجم المؤامرة، وزيف ادعاءات المنظمات الدولية التي نظّرت لحقوق الإنسان، والحقوق المدنية والسياسية، وحقوق المرأة وحقوق الطفل، وغيرها من المواثيق الدولية، بينما وقفت عاجزة عن تطبيق شيء من بنود تلك الاتفاقيات والمعاهدات، وإنما كانت تطبّق على المستضعفين دون المتكبرين والمفسدين في الأرض وتجّار الموت، ليس في غزة وحسب وإنما في بقاع أخرى من العالم العربي والإسلامي، فما يحدث في السودان لا يقل فظاعة عما يحدث في غزة، فضلاً عن المعاناة في اليمن وسوريا وليبيا، ومصر، وتونس ، وأفغانستان ومسلمي الروهينجا والإيغور، والهند وكشمير وكأن بوصلة الاستهداف موجهة إلى هذه البقعة من العالم ليتم زعزعة الاستقرار فيها، بتآمر أمريكي غربي وتواطؤ داخلي وهو الأشد مرارة فكما يقول طرفة بن العبد:
وَظُلمُ ذَوي القُربى أَشَدُّ مَضاضَةً عَلى المَرءِ مِن وَقعِ الحُسامِ المُهَنَّدِ.
يعد حادث الهجرة النبوية الشريفة من الأحداث المفصلية في التاريخ الإسلامي فضلاً عن التاريخ البشري دون مبالغة، لا سيما وأن تعاقب الأحداث منذ وصول الرسول محمد(صلى الله عليه وسلم) إلى المدينة المنوّرة، ظهرت الغاية جلياً لأن يصبح الإسلام رسالة عالمية تبشّر بالرحمة والقيم الإنسانية للبشرية جمعاء كما جاء في القرآن الكريم صراحةً: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾، ولا شك أن عالمية الخطاب الإسلامي بتشريعاته الربّانية قوضت النظام العالمي القديم القائم على الظلم والاستبداد والاستعباد، وهي الحقيقة التي لم ينساها المستكبرون في الأرض، وظلوا يتوارثونها، ونظروا للإسلام الحقيقي بالقيم الإنسانية التي يدعو لها ما يزعزع سلطانهم، ويبعثر مخططاتهم وهذا ليس بخافي في الخطابات المعلنة منها والخفية لدى الكثيرين من نخبهم وزعمائهم ومفكريهم.
كثيرة هي الدروس التاريخية من حادثة الهجرة النبوية الشريفة، سواء من خلال التخطيط والتنظيم والاستعداد، وقراءة الواقع، واستشراف مستقبل الدعوة الإسلامية، أو من خلال ما أفرزته الشخصيات الفاعلة في تاريخ الهجرة بشكل خاص من أثر فاعل وملموس، وفي مقدمة تلك الشخصيات الرسول الكريم(صلى الله عليه وسلم)، وصحابته الأخيار وفي مقدمتهم رفيق الدرب في الهجرة أبو بكر الصديق(رضي الله عنه)، والإمام علي(كرم الله وجهه) أول فدائي في الإسلام، وأسماء بنت أبو بكر ذات النطاقين التي كانت تحمل الزاد إلى غار ثور وهي حامل بابنها عبد الله بن الزبير، وغيرهم من الشخصيات التي ساهمت في تحقيق أهداف الهجرة، لتكون بحق من أعظم الهجرات البشرية وأعمقها أثراً في التاريخ.
بفضل الهجرة النبوية الشريفة انتقلت الدعوة الإسلامية من دعوة توحيدية إلى دعوة تشريعية، ومن الضعف إلى القوة، وانتقل المسلمون المستضعفون في أقل من عقد من الزمان من محكومين إلى حاكمين، ومن البلاء إلى البناء، ومن مرحلة الدعوة إلى مرحلة الدولة.
كان من أول الأعمال للرسول (صلى الله عليه وسلم) عندما وطئت قدماه الشريفتان أرض يثرب-وقد تغيّر اسمها إلى المدينة، كما اشتهرت بطيبة- بناء مسجد قباء على مشارف المدينة، ثم المسجد النبوي الذي أصبح حرماً يشد إليه الرحال، إيماناً منه (صلى الله عليه وسلم) بأهمية المسجد في اجتماع المسلمين، وتوحيد كلمتهم وعقد راياتهم فيه، ثم كانت الخطوة الثانية ذات البعد الإنساني عندما تبنى مفهوم المؤاخاة بين الأنصار -سكان المدينة الأصليين- والمهاجرين، وقد سبق هذه الخطوة المصالحة بين الأوس والخزرج. ولم يكن إطلاق مصطلح الأنصار على سكان المدينة محظ صدفة، بل هو مصطلح عميق الدلالة خلده القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ﴾؛ فالأنصار هم الناصرين لدين الله ودعاته وحماته، وهذه المؤاخاة قلبت موازين القوى آنذاك، وأذابت الفوارق بين مختلف طبقات وفئات المجتمع ليكون الناس تحت راية الإسلام سواسية " لا فرق بين عربي ولا أعجمي ولا ابيض ولا أسود إلا بالتقوى...".
أما ثالث الخطوات الرئيسة فكان كتاب الموادعة "صحيفة المدينة"، هذا الكتاب أو الصحيفة أشبه بالدستور أو النظام الأساسي أو العقد الاجتماعي بالمصطلح السياسي الحديث، حمل في طياته تنظيم العلاقات بين مكونات مجتمع المدينة الذي كان يضم الأنصار والمهاجرين واليهود والمسيحيين، وأعراق وطوائف مختلفة، دستور راعى فيه الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم)، مكونات المجتمع وطوائفه وأعراقه، وعاداته وتقاليده وخصوصيته، دون أن يتناقض أو يتصادم في أحكامه مع تلك المكونات، بل كان ضامناً للحقوق والحريات، وضامناً للتعاون والتكافل والتراحم، فكان مفهوم الأمة، ومفهوم الحاكمية، ومفهوم القبيلة والعشيرة، ومفهوم المواطنة والولاء، ومفهوم الأمن العام حاضرة في بنود صحيفة المدينة ودستورها، والخطوات الثلاثة -الآنف ذكرها- شكلت أركان الدولة في الإسلام وهي بشكل عام: أرض وشعب وسلطة، وفي أقل من قرن من الزمان أصبحت الدولة التي أرسى قواعدها وتشريعاتها الرسول (صلى الله عليه وسلم)، إمبراطورية عظيمة امتدت حدودها من الصين شرقاً حتى الأندلس غرباً وضمت مساحة واسعة شملت أجزاء من قارات ما كان يعرف بعالم العصور الوسطى: آسيا وأفريقيا وأوروبا.
ما أحوجنا اليوم أن نستلهم من تلك التجربة التاريخية الفريدة التي لا تزال حاضرة متجددة مع كل عام هجري حيث ابتدأ بها التاريخ الإسلامي، نستلهم منها ما معنى الصبر على البلاء والابتلاء وكيف يكون البناء عندما نحسن التخطيط والاستعداد ونخلص في التنفيذ، وأن نقرن الدعاء بالعمل لأجل تحقيق الأهداف والغايات العظام وأن نعود كما قال الله عزّ وجّل في محكم كتابه العزيز ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾.