الوصال - د.علي الريامي ع

الساعة تشير إلى الرابعة عصراً من اليوم السابع من مايو 2024 في مطار الملكة علياء بالمملكة الأردنية الهاشمية، وكنت قبلها بساعتين قد غادرت الجامعة الأردنية عائداً الى مسقط بعد المشاركة في المؤتمر الدولي الخامس عشر "التراث السياسي عند العمانيين بين التنظير والتطبيق" والذي نظمته وحدة الدراسات العمانية بجامعة آل البيت، وقد جاء تنظيم هذا المؤتمر بالتزامن مع الاحتفاء باليوبيل الفضي لإنشاء الوحدة بمشاركة نخبة من الباحثين العمانيين والعرب، وقد شد انتباهي مشاركة الباحثة "تشو لين" من جمهورية الصين الشعبية التي قدمت ورقة بحثية بعنوان: "العلاقة بين الدين والسياسة في سلطنة عُمان: دراسة تحليلية مقارنة"، في المقابل عندما تقدمت بطلب المشاركة في المؤتمر عبر القناة المتعارف عليها، قال لي من نصّب نفسه مقصاً للرقيب: "موضوعك حساس" استغربت في حساسية موضوعي، رغم أنه يتحدث عن قضية سياسية كانت قد وقعت قبل 1173 سنة بالهجري، 1139 بالميلادي، يومها كظمت غيضي وقلت في نفسي: كم هو مرعب هذا التاريخ، ولا أعلم هل نكتب التاريخ كما كان، أم كما يرغبون أن يكون، فكم في التاريخ من عثرات وانكسارات وما أكثرها، وكم فيه أيضاً من قفزات وانتصارات، فهل ندير ظهرنا له، ويدرسه غيرنا؟

الحدث التاريخي ليس مهما في ذاته، بقدر ما هو مهم من حيث نتائجه وآثاره في الحاضر، وما قد يترتب عليه في المستقبل، فالوعي بحركة التاريخ تعني إدراك كنه الأحداث وسيرورتها، والقدرة على استيعابها، والتمييز بين ما يطلق عليه التاريخ العبء والتاريخ الحافز.   

كان اليوم السادس من مايو ماطراً، والزحام في العاصمة عمّان أمراً مألوفاً.. ويبدو أن هناك انتشارا واسعا للسيارات الكهربائية قد بدأ يغزو شوارع عمّان فأسعار البنزين قد تضاعف فعلاً والسيارات الكهربائية أضحت خياراً  لا بد منه هكذا أخبرني عبد الله القيسي الشاب الذي جاء يستقبلني في المطار، وفي اليوم التالي جاء ليأخذني إلى جامعة آل البيت في محافظة المفرق.. تذكرت الطريق الصحراوي المؤدي إليها، والذي لم تتغير ملامحه عدا اختفاء خيمة الرجل السوداني الطيب راعي الإبل الذي قفز إلى ذاكرتي فجأة.. كان قد نصب خيمته الصغيرة قريباً من الشارع وكلما سنحت الفرصة كنا نذهب إليه برفقة الأصدقاء فيكرمنا بحليب الإبل الطازج.

أشجار "السرو" المعمّرة جزء من هوية الجامعة الأردنية.. وجدتها لا تزال صامدة في وجه الزمن.. صامدة صمود الأردن هذا البلد المحاط بالأزمات من حوله، فحدوده على صفيح ساخن منذ حرب الخليج الأولى والثانية واحتلال العراق، وقبل ذلك احتلال فلسطين من قبل الصهاينة وقد كانت الضفة الغربية جزءا منه، ثم ما حدث لسوريا التي تشترك معه حدودياً. ولعل ما يعمّق الوضع في الأردن قلة الموارد واستقباله لملايين النازحين إبان مختلف الأزمات السابقة والحالية.

نصب الساعة باللون الأبيض أحد معالم الجامعة الأردنية، ولعل بياض لونه يحاكي لون الثلج الذي عادة ما يتساقط في الأيام الشتوية الماطرة بكثافة، فالجامعة الأردنية تقع في منطقة الجبيهة المرتفعة، لهذا تتساقط الثلوج في هذه المنطقة بكثافة.. تنتصب الساعة كرجل الثلج، وبالقرب منها مكتبة الجامعة الأردنية..

ما إن نزلت من الطائرة حتى وجدت من استقبلني بحفاوة النشامى المعهودة، وسريعاً أنهيت إجراءات الخروج، وبعد الترحيب قال لي عبد الله القيسي -الذي كان ينتظرني خارج المطار- بلكنته الشامية: "الدكتور محمد الفائز يسلم عليك ويريد أن يطمئن على سلامة وصولك"، وأنا لم أكن اعرفه من قبل، لكن أستاذي الدكتور محمد الطراونة -جزاه الله خيرا- قد أخبرني بأنه قد أوصى من يستقبلني بإكرام وفادتي.. ظننت في البداية أن الدكتور محمد الفايز رجل ختيار (كبير السن)، وقد أخبرني عبد الله أنه في انتظارنا.. وعندما وصلنا الى منزله كان في استقبالي شاب في نهاية الثلاثينيات يزيد أو يصغر قليلاً.. هكذا بدا لي، وعرفني بنفسه بأنه محمد الفايز، وكان برفقته عدد من زملائه أحدهم يعمل في مؤسسة آل البيت، وبعد التعارف وتبادل أطراف الحديث كان المنسف الأردني على طاولة الطعام، والمنسف هذا من الأكلات الشعبية في الأردن وتقديمه للضيوف بمثابة تقديم الذبائح لدينا تعبيراً عن الكرم العربي الأصيل، والمنسف المعمول في المنزل يكاد يختلف كلياً عن ذاك الذي يقدم في بعض المطاعم من حيث اتقان صناعة الجميد ونوعية الأرز المستخدم وكذلك نوعية اللحم الطازج باختصار هو حكاية لمحبي الأكل الفريد.

كل شيء في المدينة بدا لي وكأنه الأمس.. الطراز المعماري.. ملامح الوجوه.. أحاديث الطلبة.. أكشاك القهوة التي توسعت.. قاعات التدريس.. مكاتب الهيئة الأكاديمية بقسم التاريخ.. قلة ممن أعرفهم بقوا وغالبية جيل الرواد غادر الجامعة بعضهم للتقاعد وبعضهم رحل إلى الآخرة رحمهم الله.. كالأستاذ الدكتور عبد الكريم الغرايبة والأستاذ الدكتور عبد العزيز الدوري، وهناك من بقي اسمه على باب المكتب شاهداً على ذلك الجيل الرائع من المؤرخين وأساتذة التاريخ بالجامعة الأردنية، أذكر عندما وصلت لدراسة الدكتوراة في شهر سبتمبر من عام 2009م، كنت محظوظاً حتماً لأن أدرس مقررات السنة الأولى والثانية على أيدي كثير منهم وفي مقدمتهم -كما يحب أن يسمي نفسه- "الشيخ المعلم" عبد الكريم الغرايبة وكان في أواخر الثمانينيات من عمره آنذاك إلى جانب آخرين برتبة أستاذ دكتور وهم: صالح درادكه، ومحمد خريسات، ومحمد حتاملة، وفالح حسين، وغيداء خزنة كاتبي التي تفتخر بأنها تلميذة المؤرخ الكبير عبد العزيز الدوري، وكم كنت أتمنى أن أحضر قاعة محاضراته، ولكنه في تلك الأيام كان يمر بحالة صحية ألزمته المنزل بعد أن بلغ من الكبر عتيا، ومع ذلك لا شك أني تأثرت بكتاباته، وتتلمذت على كتبه القيّمة؛ الفكرية منها على وجه الخصوص، وأذكر أني التقيت به في مسقط إن لم تخني الذاكرة سنة 2003م، كان يومها قد قدم إلى جامعة السلطان قابوس لتقييم برنامج البكالوريوس في التاريخ في إطار مراجعة البرامج الأكاديمية بهدف تطويرها.

كما فاتتني الدراسة مع الأستاذ الدكتور علي محافظة، هؤلاء كانوا بحق جيل المؤرخين الرواد في الجامعة الأردنية، ومع تقدمهم في العمر كان يدور في خلدي يومها سؤال أحسبه مهم: هل المؤرخون أطول عمراً من غيرهم؟، فكما يبدو تنطبق عليهم مقولة الشاعر:

ومَنْ وَعَى التاريخَ في صدْرِهِ    أضافَ أعماراً إلى عُمْرِهِ

أما الجيل التالي للرواد السابق ذكرهم يأتي الأستاذ الدكتور عصام عقلة، وقد كانت محاضراته في التاريخ الاجتماعي ماتعة، أما الأستاذ الدكتور يوسف بني ياسين الذي أصبح مشرفي على أطروحة الدكتوراة؛ فلعل من المفارقة أني لم أدرس معه أي مقرر وأذكر يومها كان برتبة أستاذ مشارك لكني تعرفت عليه من خلال الأستاذ الدكتور سلامة النعيمات وقد كان يومها عميداً لكلية الآداب وقبل ذلك كان زميلاً وأستاذاً عندما التحق بقسم التاريخ في جامعة السلطان قابوس في عام 2003 تقريبا، وتجمعه صحبة وصداقة بأستاذي ومعلمي الدكتور عصام الرواس حيث كانا زميلي دراسة في المملكة المتحدة.

لم أكن اعرف بني ياسين كثيراً، وكنت أبحث عن متخصص في منهجية الكتابة التاريخية عند المؤرخين وتبين لي أنه الخيار الأفضل، فهو قد كتب أطروحته في منهجية الكتابة التاريخية عند مؤرخي الأندلس، والموضوع الذي كنت قد فكرت بدراسته ذو صلة وثيقة بفكرة منهجية الكتابة عند المؤرخين بعد أن اطمأنت نفسي بعد قراءة مكثفة لأدرس منهجية المؤرخ الدرجيني من خلال كتابه طبقات المشايخ بالمغرب وهو من مؤرخي القرن السابع الهجري/الثالث عشر الميلادي.

هكذا بدأت علاقتي بمشرفي، وهي لم تكن علاقة عابرة بين أستاذ وتلميذ من خلال الإشراف فحسب؛ بل كانت علاقة مرشد وموجّه وأخ، وقد عاملني كصديق، وغمرني بعطفه، كما أفاض عليّ من علمه الكثير؛ خاصة في منهجية الكتابة التاريخية، فضلاً عن التعامل الراقي، لهذا استمرت علاقتنا بعد تخرجي، واستمرت استفادتي منه، وبقي حبل التواصل بيني وبينه ممدوداً بالود والتعاون العلمي أحياناً، تعلمت منه الكثير عدا هدوءه المبهر في الحديث...

ما زالت ذاكرتي مترعة بالذكريات حلوها ومرها، وإلى جانب إنجاز أطروحة الدكتوراة -التي ناقشتها وكان ذلك من محاسن الصدف بتاريخ 23 يوليو 2013، إذ تزامن ذلك اليوم مع يوم النهضة العمانية المباركة من عام 1970م، وهو بكل تأكيد يوم مميز بالنسبة لجيلي- حظيت بإنجاز آخر مهم تمثّل في معرفتي بمجموعة متميزة من الأصدقاء الرائعين، لا يزال تواصلي معهم مستمرا وقائما، خاصة من خلال مجموعة الواتساب التي أسميناها "شباب عمان" وحرف العين في عمان ليست بالضمة وليست بالشدة كذلك –في إشارة إلى القاسم المشترك-، فهل كان ذلك صدفة أيضا؟!!! ربما...

بعد يوم المناقشة كان أمامي أسبوع فقط كي أربط حقائبي، وأشحن سيارتي -التي رافقتني منذ السنة الثانية-، وأنتقي ما لذّ وطاب من نفائس الكتب، فدور النشر في عّمان كثيرة، وصناعة الكتاب أحسبها جيدة...، واستعدادا للعودة حرصت على العمل لساعات طويلة حتى أنهي ملاحظات المناقشة، وإجراءات التخرج المعتادة، وفي الحادي والثلاثين من شهر يوليو، كنت بالفعل في مطار الملكة علياء، ومنذ ذلك التاريخ لم أزر الأردن عَقداً من الزمان حتى جاء يوم الخامس من مايو 2024م، بهدف المشاركة في المؤتمر العلمي السالف ذكره.

كانت رحلتي لعّمان قصيرة جداً مدة يومين فقط، قضيت اليوم الأول منها في المؤتمر، وفي المساء كنت على موعد مع زميل دراسة وصديق عزيز هو الدكتور مهدي الرواضية... هو من جيل الشباب المهتمين بتحقيق التراث العربي الإسلامي، وهو مجال قلّ من يهتمّ به رغم أهميته، جاء مهدي ليقلني من الفندق بمنطقة العبدلي، التي تطورت كثيراً بوجود البوليفارد ومجموعة من الفنادق الراقية، والمقاهي العالمية التي لم تكن موجودة إبان دراستي، ولأنه تستهويني رائحة المدينة القديمة وكان مهدي قال لي بلهجته الأردنية: "وين بدك نقصدر" بمعنى أين تريدنا أن نتسكع أو نذهب، وبدون تفكير قلت له إلى وسط البلد، أذكر أن هناك مطعما شعبيا كنا نقصده، اسمه "شهرزاد"، ليس فخماً لكن أكله "زاكي" بمعنى لذيذ، هذا المطعم مزدحم بالناس، كان قد عرّفني عليه أحد الزملاء العمانيين، ومن بين الأكلات المشهورة، المشاوي المشكلة، وكفتة الطحينة وكفتة البندورة... الأكل فيه طيب ولذيذ ورخيص، مقارنة بالمطاعم في شارع المدينة أو في عبدون أو في الصويفية.

وسط البلد يعني البلدة القديمة في عمّان، هي عالم آخر، رغم أنه صاخب يضج بالحركة والازدحام، لكنه من الأمكنة النابضة بالحياة، يتوسط البلدة جامع الحسين القديم، وصعوداً إلى الأعلى حيث المدرج الروماني، والأطلال الأثرية، وجبل القلعة في أعلى التل، ومن ذلك الارتفاع يمكن مشاهدة سحر جمال المدينة من الأعلى... وفي وسط البلد أسواق متنوعة، وأكشاك الكتب التي من أشهرها "كشك الثقافة العربية" وبجانبه أفضل محلات بيع الكنافة "كنافة حبيبة" بنوعيها الناعم والخشن، وبينما كنت أنتظر مهدي الذي ذهب لإحضار الكنافة، اشتريت من كشك الثقافة كتاب "معذبو الأرض" لفرانز فانون، وهذا الكتاب الرائع يبحث في العلاقة بين المستعمِر والمستعمَر، نعم ذهب الاستعمار القديم، لكن تم استبداله باستعمار آخر لا يقل عنه فضاعة، وهو ما كشفت عنه أحداث وتداعيات السابع من أكتوبر 2023م... كشف عن الوجه القبيح للغرب وأمريكا وقد انحازت أغلب حكوماتها للدولة الصهيونية في عدوانها على غزة والذي مازال مستمرا حتى كتابة هذه الكلمات... تكشّفت بوضوح ازدواجية المعايير حول السيادة والاستقلال، والحرية، والعدالة، وحقوق الإنسان، وحقوق المرأة، وحقوق الطفل، والديمقراطية الذي يبدو أن المقاس الغربي لها يختلف عن المقاس الشرقي...

في اليوم الأخير من الزيارة السريعة القصيرة أردت استعادة شيء من ذكريات ذلك العَقد الذي مضى.. ذكريات الجامعة الأردنية، فكنت على موعد لقاء مع الأستاذ المشرف الدكتور يوسف بني ياسين، لكن قبل الذهاب إلى كلية الآداب عرجنا إلى مكتبة الجامعة الأردنية كي أهدي المكتبة نسخة من كتابي المنشور هذا العام 2024، -وقد تكفلت بطبعه مشكورة جمعية الكتّاب والأدباء-، وهو في الأصل أطروحة الدكتورة، وقد كان لمكتبة الجامعة الأردنية فضل كبير عليّ، ورد الجميل واجب ولو بالقليل.. مكتبة عامرة بنفائس الكتب، والمجموعات الخاصة، وأغلب ساعات يومي إبان الدراسة كنت أقضيها هناك ...

في طريقنا لكلية الآداب كان من محاسن الصدف أن أتعرف على الأستاذ الدكتور جهاد الشعيبي، التقينا به صدفة، ولم يسبق لي أن قابلته من قبل، لكني شعرت من حديثه الودي أني أعرفه منذ زمن..، عرّفه مهدي بي، وعندما أخبره أني من سلطنة عمان أصرّ على أن يكرمني بالقهوة الإيطالية، فهو حاصل على الدكتوراة من إيطاليا وأستاذ اللغة الإيطالية والإنجليزية بكلية الآداب بالجامعة الأردنية، أستاذ دمث الخلق، قلت له: يوجد معنا في عُمان قبيلة الشعيبي في محافظة الشرقية، ويبدو بينك وبين الشعيبيين في بلدي صلة قرابة في الأصول، لهذا لا بد لك من زيارة عُمان.

أثناء هذه الزيارة السريعة التقيت كذلك بالأستاذ الدكتور زياد الرواضية أخي المهدي، كما شاءت الأقدار أن ألتقي بالدكتور فوزي الطواهية الذي تذكرني سريعاً، كما التقيت بالزملاء الدكتور ربيع الفرجات، والزميلات منار وشهناز، وكانوا يومها في مرحلة الماجستير، هكذا كانت زيارتي لـ "الأردنية" قد أشعلت في نفسي جذوة الذكريات، وما بين مسقط وعمٌان أكثر من خمسة عقود من العلاقات المتميزة على المستوى الرسمي والشعبي، وما أن تحل ضيفاً في عمّان حتى تستشعر أن للأماكن أرواحا مجندة ما تعارف منها ائتلف.. وللأماكن في عمّان عبق ممزوج لا شعورياً باللبان.. وذكريات كثيرة تترا وسؤال أشبه بالجرس يقول لي: هل تتذكر مروج الربيع في سهول إربد، ومرتفعات جرش وعجلون، وهل تتذكر البتراء ووادي موسى، والبحر الميت والعقبة.. نعم شريط الذكريات ما ينفك يطاردني لذا آثرت أن أستعرضها في شريط الكتابة هذه...

--:--
--:--
استمع للراديو