الوصال - د.علي الريامي 

كم كانت عبقرية فكرة هذا العمل؛ فعندما اتصل بي الصديق العزيز، والمخرج المبدع ناصر الرقيشي وطلب لقائي لموضوع هام، أدركت أن لديه فكرة ما، ويرغب باستشارتي فيها، وكان قد أرسل لي قبل ذلك بأيام برومو قصير من 25 ثانية، تظهر فيه شخصية مالك بن فهم الأزدي في مشهد تخيلي ومقطع موسيقي، وقد وظّف فيه الذكاء الاصطناعي بأسلوب إبداعي.

شرح لي الرقيشي فكرة هذا العمل الإبداعي بحسه الفني المعهود، لحن العمل السيد شبيب بن المرداس البوسعيدي، وكلمات الشاعر المتألق حمود العيسري -صاحب القصيدة المغناة "تزهو بك الأعوام عاماً بعد عام"-، وتوزيع موسيقي المايسترو أمير عبد المجيد. وسرعان ما أيقنت أن اجتماع الثلاثي الرائع: الرقيشي والعيسري والسيد شبيب في عمل كهذا حتماً سيكون كفيلاً بتحويله إلى أيقونة مميزة وتحفة فنية رائعة، فمعهم وبهم ستكتمل عناصر التميز.

لن ادعي تقديم رؤية نقدية في هذه القراءة المتواضعة، فلست ناقداً في مجال الأعمال الفنية والموسيقية، وإنما فقط متذوقاً لها، وما سوف أتطرق إليه إنما هو قراءة لأهم تفاصيل المشاهد المضمّنة في هذا العمل من أكاديمي متخصص في التاريخ.

في البداية أود الإشارة إلى عنوان هذه التحفة الفنية الملحمية: “نشيد عمان"، وهو اختيار أريد به تجسيد ذلك لحضور الباذخ لعُمان التاريخ والحضارة .. عنوان يعبر عن المضامين التاريخية لأهم المحطات المفصلية في التاريخ العماني المدوّن ومنها هجرة الأزد إلى عُمان بقيادة مالك بن فهم التي هي على الأرجح في القرن الأول الميلادي، وليس انتهاءً بالسلطان المجدد هيثم بن طارق-حفظه الله-، محطات ترسم مشاهد تاريخ حافل ماجد، تتوارثه الأجيال المتعاقبة، بروح متقدة بالعزيمة متدثّرة بالعلم، متوشحة بالإبداع، كل ذلك يجسده هذا العمل في مشاهد بصرية، وكلمات عفوية، وألحان أوركسترالية فخمة.

أولى المشاهد تبدأ من ساحة معركة سلوت.. حيث يقف مالك بن فهم الأزدي على صهوة جواده الكميت، يصاحب المشهد السريالي ألحان النصر.. تتصاعد النغمات لتواكب كبرياء الحدث؛ فانتصار مالك بن فهم في معركة سلوت كان يوماً من أيام العرب الخالدة، إنتصار يعني استعادة الأرض وتشكّل الهوية العربية العمانية الجامعة لقبائل كنت متفرقة؛ فأصبحت معه موحّدة.

ثم يأتي مشهد آخر يجسد حقبة ملوك آل الجلندى الذين تشرفوا باستقبال مبعوث الرسول الكريم محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وسلم)، يدخل أبناء الجلندى في الإسلام طوعاً، وقبلهم مازن بن غضوبة.. يدعوا الرسول لأهل عمان "اللهم وسع عليهم في ميرتهم.. وأكثر خيرهم من بحرهم"، تطوى صفحات التاريخ وصولاً إلى ملحمة تجسد العزة والإباء.. يستجيب الإمام الصلت بن مالك الخروصي لنداء الزهراء السقطرية فيرسل حملة عرفت في التاريخ العماني بحملة الإمام الصلت إلى سقطرى ويرسل مع قادته عهداً يمثل أرقى ما كتب في المواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان وآداب الحرب ومعاهدات السلام.

أولى الكلمات التي سيصدح بها الكورال: "عاهدنا عاهدنا الوطنا .. نتحدى بالعزم المحنا، وهذ الافتتاحية إنما تجسد في حقيقتها معنى الوفاء والالتزام والإخلاص في أداء الواجب تجاه الوطن، فالشعب هم حراسه وجنوده الأوفياء، ليس في ساحة الوغى والذود عنه فحسب، وإنما أيضاً في عرصات البناء، ولا يتم التغلب على المحن إلا بالعزم والكفاح.

يواصل الكورال النشيد: "والدهر نباري والزمنا.. وسنبقى الأبرار الأمنا"، ويختتم الشطر الأول من النشيد بكلمات تجسد معنا العز والفخر والتفاخر "العزٌّ لنا والمجد لنا" وأي عز وأي مجد ذاك المتجذر في نفوس هذا الشعب الأبي.. عزُ ومجد راسخ رسوخ جبال الحجر الغربي والشرقي وجبال القمر وسمحان، عزٌّ ومجد صاغ عقد مسبحته الأسلاف العظام والأبناء البررة الكرام.

سريالية المشاهد تتولى والألحان ترسم الكلمات، والكلمات تتمواج عنفواناً مع الألحان .. يمسك المايسترو بالمخْصرة يضبط بها النغمات والإيقاع يعلو بها ويهبط في مشهد سريالي يأخذ المستمع والمشاهد إلى عالم حالم من الأمجاد والذكريات الخالدة..

نصل إلى عهد الإمام ناصر بن مرشد اليعربي .. أمامه مهمة تبدو في بدايتها مستعصية .. عينه على الداخل كيف يستعيد وحدته، وعينه الأخرى ترصد تحركات البرتغاليين على الساحل العماني، يرسل العيون فيرقب المشهد .. يشحذ الهمم .. يرسل الجنود البواسل المشرئبة أروحهم بالفداء والتضحية .. يستعيد قريات وصور وقلهات، دبا، ولوى، وصحار، ولم يبق من عهده الباذخ بالتضحيات سوى تحرير مسقط ومطرح، التي سيحررها خلفه الإمام سلطان بن مرشد عام 1650م.

ولما كانت التحديات لا تتوقف وهي تختبر معادن الرجال، وصبر الشعوب يأتي مشهد أحمد بن سعيد البوسعيدي المحرر والمجدد من رحم الاضطرابات العاصفة، يقف في وجه رياح الغزاة، يكتب فصلاً آخر من فصول الوحدة الوطنية.. ينتصر بشجاعة.. يحرق سفن الأعداء، ينادي بصوته: ستبقى هذه الأرض المباركة عصية ومحرقة للطامعين، ولسان حاله تجسده كلمات النشيد: والدهر نباري والزمنا ... وسنبقى الأبرار الأمنا .. العز لنا.. والمجد لنا.

وفي المشهد التالي تظهر خارطة عمان التاريخية حيث يمتد نفوذها إلى الساحل الشرقي من الخليج العربي وإلى شرق أفريقيا وأجزاء من البر الإفريقي، تطل شخصية السيد سعيد بن سلطان وهو يرث إمبراطورية قلبها في عُمان وتسمع نبضها في الشطر الآخر لتصبح زنجبار عاصمة ثانية لدولة مترامية الأطراف.. تفوح منها روائح البن والقرنفل والتوابل، ويحمل منها خشب الساج والعاج وأجود أنواع الجلود .. يسيل لعاب أوروبا وأمريكا لهذه التجارة الرائجة.. ترسل مبعوثيها وتجّارها لعقد الصفقات مع سيد السواحل سعيد بن سلطان.. وفي عهده تلقي السفينة سلطانة مرساتها في ميناء نيويورك عام 1840م محمّلة بالبضائع الشرقية الفاخرة وهدايا ثمينة من السيد سعيد إلى الرئيس الأمريكي الثامن للولايات المتحدة الأمريكية مارتن فان بيورين(Martin Van Buren).. كانت الهدايا عبارة عن جوادين عربيين وسيف مرصع بالذهب وعدد من الأحجار الكريمة وحبات من اللؤلؤ.

ينتقل المشهد إلى التاريخ المعاصر، فترة السلطان سعيد بن تيمور التي تمثل مرحلة انتقالية للولوج إلى فجر النهضة المباركة في 23 يوليو 1970م، حيث يبدأ المشهد باستعراض صور من محطات المغفور له بإذن الله جلالة السلطان قابوس بن سعيد –طيب الله ثراه- القائد الباني الذي أعاد لهذا الوطن وحدته بعد الانقسام، وأعاد له أمجاده التليدة لتصبح عُمان واحة أمن وأمان وتقدم، وازدهار، ولم يكن طريق النهضة في البدايات مفروش بالورود بل كان طريق مليء بالتحديات، غير أن حكمة المغفورله-بإذن الله- كانت السمة الأبرز في التعامل مع أشد المواقف وأخطرها، ويصاحب تلك المشاهد أصوات الكورال: يا بلدي يا قدري الأبقى.. يا روحي يا نبضي الأنقى.. يا عزي يا مجدي الأرقى .. يا مدرج عروتي الوثقى .. أهدي روحي ودمي ثمنا..

ومن قاعة الأوركسترا تترى مشاهد من ذكريات خالدة مطبوعة في القلب .. عالقة في العقل والوجدان .. مشاهد تبرز جمال الطبيعة والإرث الحضاري والتنوع الثقافي، ومشاهد لحماة الوطن في البر والبحر والجو، وصولاً إلى عهد السلطان هيثم بن طارق-حفظه الله- كمنطلق لنهضة متجددة وثّابة تنحت رسمها بخطى ثابتة متفائلة .. تستلهم من الماضي أصالته ومن الحاضر حداثته .. حداثة تستشرف المستقبل "فالعز لنا والمجد لنا .. وعمان تدوم لنا وطنا".   

--:--
--:--
استمع للراديو