من مسقط إلى المغرب: التراث والثقافة والجمال
الوصال - وحدها اللحظات الجميلة والمشاهدات المثيرة ما يجعلها عالقة في الذاكرة حتى أنها أغرتني بالكتابة وتوثيق المهم منها، وكنت قد تعودت ان أكتب مما تسترجعه الذاكرة، ومما علق بالوجدان من مشاعر وأحاسيس عفوية مع الاستعانة ببعض الملاحظات التي احتفظ بها عادة في ذاكرة الهاتف، بالإضافة إلى الصور الملتقطة والتسجيلات المصورة كمعينات لحبكة السرد الواقعي كما كان.
في صباح يوم التاسع والعشرين من شهر يوليو 2024م، تناولت إفطاري على عجل، وخرجت إلى شارع محمد الخامس، حيث مبنى البرلمان بتصميمه الجميل والمهيب.. نسمات الصباح الباردة تبعث شعوراً بالبهجة والسعادة.. استوقفتني إحدى بسطات الكتب لشاب ثلاثيني اسمه سعيد، كان للتو قد بدأ بصف كتبه المعروضة للبيع.. تصفحت العناوين، واستوقفتني عدد من إصدارات الكاتب والأديب المغربي حسن أوريد الحائز على جائزة بوشكين للأدب سنة 2015 من اتحاد كتاب روسيا.
اشتريت من إصدارات حسن أوريد روايتين: رَواءُ مكة-بالضم والمد- وتعني المنظر الحسن، ورواية الموريسكي، بالإضافة إلى كتابه الرائع عالم بلا معالم، وقد كتب في أول صفحاته اقتباسا من رؤية ابن خلدون الفلسفية: "وكأنما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض، وإذ تبدلت الأحوال جُملة فكأنما تبدل الخلق من أصله، وتحول العالم بأسره، وكأنه خلق جديد، ونشأة مستأنفة، وعالم مُحدَث"، ويبدو باقتباسه هذا أراد لفت الانتباه إلى المتغيرات الدراماتيكية التي يمر بها النظام العالمي، وربما يستشرف من خلال تلك المتغيرات ولادة نظام عالمي جديد ولو بعد حين من الزمن، كما اشتريت من بائع الكتب كتاباً آخربعنوان: تخلص من التوتر للدكتور ميشيل أولبين ومساعده سام براكِن من ترجمة أحمد حسن.
في تمام الساعة التاسعة حضر السائق زكريا ليقلّنا إلى مطار الدار البيضاء، الذي يبعد عن مدينة الرباط ساعة ونصف تقريبا.. كانت حركة المرور اعتيادية بدون زحام.. مرت بخاطري آخر الكلمات الشائعة التي يسمعها الزائر كثيرا في المملكة المغربية مثل: أخّه، مزيان، صافي، ديالي، صحة وراحة.. بعد زيارة استغرقت ستة أيام كان الهدف منها المشاركة في المؤتمر الدولي الرابع: "التراث والثقافة والمجال" الذي نظمه مختبر السرد والأشكال الثقافية: الأدب واللغة والمجتمع بكلية الآداب والعلوم الإنسانية جامعة مولاي سليمان في بني ملاّل.
هذه الزيارة الثانية بالنسبة لي بعد الزيارة الأولى التي كانت في إبريل 2018، للمشاركة في مؤتمر بمدينة تطوان بمناسبة تكريم أستاذي البروفيسور ابراهيم القادري بوتشيش، وكنت قد قدمت آنذاك ورقة علمية بعنوان: "قراءة في دلالات الخطاب الكرامي عند الدرجيني من خلال كتابه "طبقات المشائخ بالمغرب: مساهمة في دراسة ذهنية الإباضيين بالغرب الإسلامي" ومن تطوان زرت مدن مغربية أخرى من بينها مدينة شفشاون(المدينة الزرقاء) وطنجة مسقط رأس ابن بطوطة -الذي زار عُمان في رحلته الشهيرة في النصف الأول من القرن الرابع عشر الميلادي-.
يبهرك المغرب بتاريخه العريق، وثراء تراثه الثقافي فضلاً عن تنوع بيئته الطبيعية، التي ساهمت دون شك في تنوع أشكال التراث الثقافي المادي وغير المادي، ثم أن هذا البلد العريق يجمع بين مكونات بشرية مختلفة: أمازيغ وعرب وشعوب متوسطية وأفريقية، ناهيك عن الموريسكيين الذين نزحوا من بلاد الأندلس بعد سقوطها.. ومساحة المملكة المغربية كبيرة وبها مدن متباعدة تربط بينها شبكة طرق حديثة، مع وجود مطارات داخلية، وقطار سريع يسمونه البراق، ولكل مدينة ميزاتها الاقتصادية وخصوصيتها الثقافية بناء على موقعها إن كانت ساحلية او ريفية او جبلية.
في اليوم الثاني بمدينة الرباط استقبلنا سفير السلطنة في المملكة المغربية سعادة خالد بامخالف في مبنى السفارة.. رحب بنا بحفاوة وإكرام، وقد أعرب لنا عن سعادته بهذه الزيارة.. ودار بيننا حديث عن التاريخ والتراث والثقافة، وعن أهمية المشاركة في المؤتمرات والملتقيات العلمية، وعن فرص تعزيز الروابط والعلاقات التاريخية بين عمان والمملكة المغربية، ويسعى سعادته جاهداً على ايجاد ارضية مشتركة لتعزيز تلك العلاقات من خلال التراث والثقافة المشتركة بين البلدين مؤكداً على دور الثقافة كأداة فعّالة تقرّب بين الشعوب خاصة بين تلك التي تملك رصيداً كبيراً من التاريخ والحضارة كسلطنة عمان والمملكة المغربية الشقيقة، وأهمية التواصل بين المؤسسات الجامعية بين عمان والمملكة المغربية.
قبل السفر من الرباط إلى جهة بني ملاّل حيث مكان انعقاد المؤتمر كنا قد قضينا ليلة جميلة في الرباط، زرنا خلالها صومعة حسان التي تعد من أبرز المعالم السياحية في الرباط، وتمثل الصومعة طراز معماري بديع من عهد الموحدين، ويعود تاريخ بناءها إلى عهد السلطان يعقوب المنصور، لكن وفاته حالت دون استكمال بناء المسجد، كما زرنا ضريح محمد الخامس، الذي يضم أضرحة ولديه الملك الحسن الثاني والأمير عبد الله، ويعد الضريح تحفة من الفن المعماري الحديث بطابع تاريخي مغاربي أصيل، وقد صحبنا في هذه الجولة السريعة الدكتور يحيى العبالي وقريبه الدكتور منير الشامي، وهم من اليمن الشقيق، وللدكتور يحيى فضل كبير في الإعداد والتحضير لهذه الزيارة العلمية المفعمة برائحة التاريخ والتراث والثقافة.
أول لقاء لي مع الدكتور يحيى كان في المتحف الوطني بمسقط، عندما قدم محاضرة رائعة في شهر مارس الماضي، ثم زارني بمكتبي بالجامعة، وهو متخصص في الآثار والعمارة الإسلامية ومهتم بتاريخ أنظمة الري التقليدية، وتجمعه شبكة علاقات مهنية وعلمية وصداقة مع باحثين عُمانيين، فضلا عن المغرب التي استقر بها منذ أربعة عشر عاماً -كما حكى لي-، أما الدكتور منير فهو يعيش بالمغرب منذ ثمان سنوات، تحدثنا كثيراً عن وضع اليمن المأزوم، وكيف تبدّلت أحواله، وما يعانيه من دمار وحصار وتجويع، وتشتت وفرقة، ولهذا هم الآن في المغرب بحثاً عن حياة آمنة مستقرة، بعد فقد كبير لليمن السعيد الذي لا يزال حياً في وجدانهم.
اختار لنا الدكتور يحيى بذوقه الرفيع مطعم دار العشّاب، وهو من المطاعم المتخصصة في المأكولات البحرية، والمغرب من أكثر الدول العربية إنتاجاً وتصديراً للأسماك.. المطعم صغير من حيث الحجم، لكنه أبهرنا بأكلاته الطازجة وطريقة التحضير المميزة، ويتميز المطعم بتقديم شربة الشعير بخلطة الأسماك وثمار البحر، وكذلك عصير الدار بخلطته الصحية من الزبيب والتين والخروب والشعير بالعسل واللوز.
اعتدنا أن نرى شوارع العواصم الإدارية جميلة ومنظمة وواسعة ومشجّرة، وكلما ابتعدنا نحو المناطق الريفية والجبلية يتلاشى ذلك لكن ما رأيته في جهة بني ملال وهي وجهتنا الرئيسية كسر تلك القاعدة التي شاهدناها في معظم دولنا العربية حيث تستحوذ العواصم على مقدرات التنمية وتهمل مناطق الأرياف، وبني ملال مدينة ريفية جبلية وهي تبعد عن الرباط حوالي أربع ساعات بالسيارة على الطريق الوطني، وهو طريق سريع لكنه كسائر الطرق السريعة في أوروبا مثلاً يتم دفع أجرة عبور، لكنه يختصر الوقت ويجنب العابرين الزحام، وما يميزه أيضا وجود محطات استراحة متكاملة الخدمات كل خمسين كيلو متر، محطات نظيفة للتزود بالوقود مع توفّر مسجد ومطاعم ومقاهي ودورات مياه نظيفة للعابرين.
وصلنا عند الساعة التاسعة مساءً، وكنا قد سمعنا بارتفاع درجة الحرارة في بني ملال، لكنه ارتفاع غير مسبوق -حسب ما سمعنا-، لدرجة أن اليوم التالي لوصولنا شهد وفاة 21 شخصاً أغلبهم من كبار السن، ومن يعاني من أمراض مزمنة حسب وسائل الأعلام المغربية، وبني ملال منطقة داخلية ريفية تجمع بين السهل والجبل، وحسب ما علمت هي من أشهر مناطق زراعة الزيتون وأجوده في عموم المغرب.. مساحات كبيرة ممتدة من مزارع الزيتون المعمرة، وقد استغربت كيف تجود في هذه المنطقة الحارة صيفاً أصناف الزيتون، وعندما سألت السائق أخبرني بأن هذا الصنف هو سلالة محسّنة مقاوم للحرارة.
في أول أيام افتتاح المؤتمر كان المدرج ممتلئ بطلبة الجامعة، خاصة من طلبة الماجستير والدكتوراة، ارتديت وزملائي الزي العماني عدا الخنجر، وكان الدكتور يحيى والدكتور منير بالزي اليمني الأنيق مع الجنبية اليمنية، كان ارتداء الزي الوطني خياراً موفقاً يتماهى مع خصوصية محاور المؤتمر: التراث والثقافة والمجال، كان استقبالنا حاراً من قبل اللجنة المنظمة وعلى رأسها مدير مختبر السرد والأشكال الثقافية الدكتور عبد الرحمان غانمي، وهو شخصية دمثة الخلق ومتواضع جداً، وقد بدأ الحفل بآيات من الذكر الحكيم وعلى غير العادة كان بتلاوة عطرة من مقرئة هي خديجة خبطة باحثة في تكوين الدكتوراة.
ما ميز حفل الافتتاح تكريم إثنين من الأساتذة المتقاعدين براً ووفاءً بما قدموه طوال مسيرتهم العلمية والمهنية وهم الدكتور عبد العزيز فارس، والدكتور محمد برهومي، كما تم تكريم ضيف الشرف الدكتور عبد العزيز المسلم رئيس معهد الشارقة للتراث، ولا شك أن هذه اللفتة الطيبة كان لها أثرها في نفوس الأساتذة الذين أفنوا ثمرة شبابهم في طلب العلم والتعلّم والبحث والتعليم.
كنت أول المتحدثين في الجلسات العلمية، وقدمت عرضاً حول الورقة البحثية التي أعددتها للمؤتمر والتي كانت بعنوان: "تراث عُمان الثقافي غير المادي: دراسة تاريخية وحضارية: عادة التبسيل أنموذجاً"، فسلطنة عمان كالمملكة المغربية ذات تاريخ عريق وتراث ثقافي ثري ومتنوع، ولا شك ان التعريف بهذا التراث هو من الأدوات الناعمة التي تقرّب بين الشعوب وتزاوج بين الثقافات، ومن خلال ما قدم من أوراق بحثية وجدت الكثير من المشتركات والتشابه في التقاليد والأعراف مع اختلاف المسميات، فمثلاً نظام الأفلاج في عُمان له نظير في نظام الخطّارات بالمغرب، وكذلك مثلاً فن "عبيدات الرمى"، وهو من أعرق الفنون الغنائية الشعبية الفرجوية، وهو مزيج من اللون الغنائي الأمازيغي خاصة بين القبائل الصنهاجية والمصمودية مع الغناء البدوي العربي الذي حملته قبائل بنو هلال خلال حكم الدولة الموحدية، وهذا الفن من الفنون الحماسية التي يؤديها الرجال وقريب منه معنا في عُمان من حيث الفكرة والغرض فن "الرزحة" و "الرزفة".
القائمين على التنظيم كانوا حريصين على إكرام المشاركين وما لمسته من إكرام لا ينتهي عند تقديم الأتاي(الشاي المغربي)، والحلويات على مدار وقت جلسات المؤتمر، وإنما تعدّاه في اليوم الأول لنكون في ضيافة رئيس مؤسسة محمد بصير للأبحاث والدراسات والإعلام السيد الشيخ إسماعيل بصير شيخ الزاوية البصيرية، وكان قد قدّم في المؤتمر كلمة حول القيمة المعنوية للتراث الثقافي وأهمية الاعتناء به والحفاظ عليه من الاندثار من قبل المؤسسات الأكاديمية.
استقبلنا الشيخ إسماعيل في مقر الزاوية البصيرية، وقد اشتهرت بلدان المغرب العربي وخصوصاً المملكة المغربية بالرباطات والزوايا، وكان لدولة المرابطين والموحدين دور كبير في تأسيسها، لتؤدي ثلاث وظائف رئيسية تتمثل في التعليم الديني، ومقاومة الأعداء والمحتلين، وتقديم الرعاية والتكافل الاجتماعي في المجتمعات التي نشأت بها؛ خاصة المجتمعات الجبلية والريفية والصحراوية، ولا زالت إلى يومنا هذا موجودة في عموم بلاد المغرب، ولها مكانتها السياسية والاجتماعية، ويرون المغاربة "أن الزوايا أو الرباطات مثلت عبر العصور والأزمنة من خلال أنشطتها فضاءاً لنشر الإسلام والتربية وترسيخ الثوابت الدينية، وشكلت عنصراً فاعلاً في تعزيز أواصر التلاحم والتكافل والتضامن والوحدة بين مختلف فئات المجتمع، وأداة لتثبيت الأمن والاستقرار في عدد من جهات المغرب"، والزوايا لها ارتباط أصيل بالطرق الصوفية المعروفة في المغرب، ولكل زاوية شيخ طريقة.
وحسب المعلومات التي حصلت عليها من عبد الإله بصير، وهو من طلبة الزاوية البصيرية وطالب دكتوراة في جامعة محمد الخامس، أن الزاوية تنسب إلى الشيخ المربي العارف بالله إبراهيم البصير(رحمه الله) المتوفى سنة 1364ه/1945م ، وهو الذي أسسها ببني عياط، وهي تتبع إداريا لعمالة أزيلال التي تبعد عنها بحوالي 83 كيلو متر، تقع على قدم جبال الأطلس المتوسط يقصدها الزوار عبر الطريق الرئيسي الرابط بين بني ملال ومراكش>
وتعد زاوية الشيخ إبراهيم البصير الدرقاوية الشاذلية المعروفة "بالزاوية البصيرية " من الزوايا التي لازالت نشيطة في الوقت الحاضر، تجمع بين الأصالة والمعاصرة ، وبابها مفتوح على مدار الساعة تستقبل الضيوف وتكرمهم، وتخرج الطلبة بعد تعليمهم، وترشد الناس وتعظهم بالحكمة والموعظة الحسنة لما فيه صلاح أحوالهم وأمورهم، وهي اليوم تمثل التصوف السني الحي البعيد عن البدع والخرافات، والمتمثل في مجالس الذكر والصلاة، ويتبع الزاوية ثلاث مدارس للتعليم العتيق يطلق عليها اسم " مجموعة مدارس الشيخ سيدي ابراهيم البصير"، ويبلغ العدد الاجمالي للطلبة الذين يدرسون بها حوالي 1000 طالب ذكورا وإناثا. وفي حديث جانبي مع الدكتور القاسمي عبد العزيز، قال لي: أن المذهب المالكي والعقيدة الأشعرية والتصوف السني وإمارة أمير المؤمنين، تمثل أعمدة للوحدة الوطنية في المملكة المغربية.
في بني ملاّل هذه الواحة الريفية وجدنا كرماً أصيلاً، وقد كنت أظن أننا الأكثر كرماً من بين الشعوب لكن وجدتهم لا يقلون عنا كرماً وربما أكثر، كانت الضيافة والكرم الحاتمي الأصيل، حيث أكرمنا شيخها إسماعيل بصير بمائدة غداء عامرة بصنوف الطعام المغربي التقليدي، وتجدر الإشارة هنا إلى تنوع المائدة المغربية فوجبة الغداء كانت على أربع مستويات، ومن المواقف الطريفة بعد تقديم الطبق الأول وكان من الدجاج المطبوخ على الطريقة المغربية، ظننت انها الوجبة الرئيسية، ونحن من عاداتنا الدعاء بعد الأكل، وعندما باشرت بالدعاء قال لي الدكتور القاسمي مازحاً لي هل ستدعو مرة أخرى؟ فقلت هل يتطلب الأمر أكثر من دعاء؟ ثم رد أحدهم قائلاً: إذا أردت أن تعرف عدد الأطباق انظر لعدد المفارش على الطاولة، وبالفعل كانت توجد ثلاث مفارش، وبعد طبق الدجاج الرائع جيء بالطبق الثاني وهو طاجين اللحم بالبرقوق، ثم الطبق الثالث وبه وجبة خاصة بالأقاليم الجنوبية للملكة المغربية يقال لها الغبة تقدم مع العسل الجبلي والأملو(عصارة اللوز مع زيت الأركان)، وهي وجبة لذيذة جداً، وعندما سألت الشيخ إسماعيل البصير عن مكونات الغبة رد بابتسامة قائلاً: نحن لا نخبر أحدً بسر الصنعة لكن من تعجبه نزوجه من بناتنا لتصنعها له".
وفي حديث ماتع أخبرنا الشيخ إسماعيل عن الدور الذي تضطلع به الزوايا، ومن بين أدوارها التاريخية مقاومة الاستعمار، كما حدث في معركة وادي المخازن ومعركة أنوال في 21 يوليو 1921م التي هزم فيها المجاهد محمد عبد الكريم الخطابي جيش الاحتلال الإسباني في شمال المغرب، وهذه الزوايا جزء أصيل من تاريخ المغرب وتراثه وهويته الثقافية والفكرية، وجذور مؤسسي الزاوية البصيرية تعود إلى الرقيبات من الساقية الحمراء من مدينة سمارة بالذات.
في اليوم التالي أكرمتنا اللجنة المنظمة للمؤتمر أنا وزميلي الدكتور ناصر الصقري برئاسة الجلسة الأولى والثانية على التوالي وكان الدكتور ناصر قد شارك هو الآخر في المؤتمر بورقة بحثية بعنوان: "توظيف المصادر الفقهية في كتابة التاريخ الاجتماعي والاقتصادي"، وبعد انتهاء جلسات المؤتمر كنا على موعد آخر في ضيافة الحاج حسن في منزله وسط غابات الزيتون، وزيارة إحدى مدارس التعليم العتيق (التعليم الديني)، حيث كان في مقدمة المستقبلين لنا مع أخيه الحاج محمد مدير مدرسة الرحمان للتعليم العتيق لتحفيظ القرآن الكريم وتدريس العلوم الشرعية، وقد أخبرنا مدير المدرسة الحاج محمد أنها تشتمل على ثلاث مراحل: الابتدائي والإعدادي والثانوية، في المرحلة الأولى لا بد أن يحفظ الطالب عن ظهر قلب 40 حزباً من القرآن الكريم حفظاً متقنا، وفي المرحلة الثانية لا بد أن يحفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب حفظاً متقناً حتى يمكنه الانتقال للمرحلة الثانوية، وفي المرحلة الثالثة والأخيرة يدرس ويحفظ المتون مثل الآجرومية، ولامية الأفعال للإمام ابن مالك الأندلسي وألفية ابن مالك، ونظم الجوهر المكنون في صدف الثلاثة فنون في علم البلاغة، بالإضافة إلى علم الأصول، وعلم الحديث، والتوقيت والإرث، مع دراسة اللغة الفرنسية والراضيات والعلوم والتاريخ، وبعد أن يتخرج من المدرس يمكن للطالب الالتحاق بالجامعة.
يشرف على هذه المرسة-حسب المعلومات التي أمدنا بها المدير- وزارة الأوقاف لكنها بتمويل شخصي من الحاج حسن، ويدرس في المدرسة قرابة 260 طالب وطالبة، ويوجد بالمدرسة سكن داخلي، ويمكن أن يلتحق بالمدرسة من جميع أنحاء المغرب، وحتى من خارج المغرب من الدول الأفريقية من السنغال وساحل العاج والسودان، ويبدأ الطالب يدرس من عمر 6 سنوات، وهناك نساء في عمر الخمسين متفرغات لحفظ القرآن الكريم، وذكر لنا الحاج محمد مدير المدرسة بوجود امرأة كبيرة في السن لم يتبق لها سوى 6 أحزاب لتكمل حفظ القرآن الكريم.
ما لفت انتباهي أثناء مطالعتي لعدد من الكتب الدراسية، مثل كتاب الدراسات الاجتماعية، طبيعة الموضوعات المطروقة وربطها بالواقع المعاش، وطريقة تقديم المعلومات بطريقة سهلة وسلسلة مع توظيف الرسوم والصور والأشكال التوضيحية، فمثلا في منهج الصف الخامس هناك دروس حول اتفاقية حقوق الطفل، يتعرف الطالب عن المصلحة الفضلى للطفل في الأوضاع الاستثنائية، وحق الطفل في الصحة والتعليم والتربية والترفيه.
كان آخر الفعاليات المسائية في جهة مدينة بني ملاّل زيارة عين أسردون، وزيارة مركز التعريف بالتراث الثقافي لجهة بني ملاّل-خنيفرة-، وقد كنا برفقة الباحثة والأكاديمية في التراث الدكتورة فاطمة الزهراء صالح، المتحف يضم مفردات التراث الثقافي المختلفة في جهة بني ملاّل، وللمرة الأولى من خلال زيارتي للمتحف التعرف على لغة الصفير، وهي بمثابة نظام للتواصل خاصة بالرعاة وقاطني المناطق الجبلية، وهي بمثابة نظام تعبير بديل للغة، وهذه التقنية حسب التعريف بها موجودة في بلدان مثل تركيا واليونان وجزر الكناري، لكنها أصبحت جزءاً مخن التراث في ظل توفر وسائل الاتصال حديثة، وإن كانت في جزر الكناري يعلمونها لأبنائهم كما اخبرتنا بذلك الدكتورة فاطمة التي تبحث في توثيقها وحفظها ومن ثم تسجيلها ضمن قائمة التراث العالمي باليونسكو.. المتحف ليس كبيراً لكنه يتضمن الكثير من تفاصيل المفردات التراثية المادية منها وغير المادية، مع عرض متحفي جميل بالصوت والصورة والمجسّمات لتراث جهة بني ملال خنيفرة.
بعد انتهاء المؤتمر، كانت النية أن نزور مدينة مراكش التاريخية، لكن بسبب ارتفاع درجات الحرارة في هذه المدينة آثرنا العودة إلى الرباط، وتخصيص ما تبقى من وقت لزيارة قصبة الأوداية التي تعد من أبرز المعالم التاريخية في مدينة الرباط تطل بموقعها الاستراتيجي على مصب نهر أبو الرقراق، وقد وضع القائد المرابطي يوسف بن تاشفين لبنات بناءها الأولى، ثم توسعت مدينة القصبة في عهد الأسر الحاكمة المتعاقبة على المغرب، ولا تزال أزقة القصبة تحمل أسماء العائلات الموريسيكية التي عاشت داخل اسوار القصبة بعد تهجيرهم عقب سقوط غرناطة آخر معاقل الحكم العربي في الأندلس.
في المساء كانت لنا زيارة إلى السويقة(السوق الشعبي)، وهو من الأسواق المشهورة في عموم المغرب، سوق كثير الزحام، فيه تعرض شتى صنوف البضائع.. يجد السائح فيه بغيته من الهدايا ذات الطابع والنكهة المغربية، وما تشتهر به المغرب من ملبوسات، ومنتجات جلدية، وزيوت عطرية على رأسها زيت الأركان وطحينة الأملو الذي تشتهر به المغرب
شخصياً لم أكن أتوقع أن أعايش هذه التجربة الثرية بهذه الفعاليات المصاحبة للمؤتمر، والتي كانت تجسيداً حياً للثقافة والتراث والجمال، فما قد استمعنا إليه من أوراق بحثية في الجانب النظري، كان الكثير منه متجسداً وواقعاً حياً في الزيارات المصاحبة للمؤتمر، والأحاديث الودية، وتبادل المعارف الثقافية والتراثية؛ لهذ ستبقى مثل هذه الذكريات عالقة في الذاكرة ومستقرة في الوجدان.