قلعة نخل.. تحفة معمارية فريدة
الوصال - الدكتور علي الريامي
مع بشائر الخير بوصول منخفض الوبل، وتعطيل العمل في المؤسسات الرسمية، واستغلالا للوقت فكرت في الذهاب لزيارة قلعة نخل؛ خاصة بعد التحديثات الأخيرة، والانتهاء من أعمال الترميم وهو الترميم الثالث للقلعة من قبل وزارة التراث والسياحة على مدار العقود الماضية، ومؤخراً؛ وبغرض تعظيم الاستفادة وإضفاء قيمة مضافة للتراث المادي وغير المادي، فتح باب الاستثمار في المعالم التاريخية المهمة ومنها عدد من القلاع والحصون، ومن بينها قلعة نخل، حيث تستثمر إدارتها وتشغيلها شركة نخل الأهلية، كما أتيحت الفرصة للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة لتنشط في إقامة بعض المشاريع، ومن بينها حالياً "قهوة القلعة"، التي تقدم تجربة فريدة للاستمتاع بتاريخية المكان وإطلالاته الرائعة، فضلاً عن تنظيم بعض الفعاليات التي يمكن أن تساهم في جذب الزوار من مختلف الفئات من داخل السلطنة وخارجها، حيث تتميز ولاية نخل بمقومات سياحية عديدة.
قد لا تكون دهشة المكان نفسها حاضرة عند سكان المنطقة، حيث كنت أرى القلعة بشكل مستمر وفي مشهد متكرر، وهذا ما يفترض أن يبطل عامل الدهشة لدي، ومن جانب آخر تحتفظ ذاكرتي بالكثير من صور الذكريات الجميلة عن القلعة والأحداث التي عاصرتها؛ فالقلعة كانت أول من يستقبلك، وأول من يودعك، واحتفالات الأعياد “الهبطة والعزوة" تقام بحذائها، وكذلك الاحتفالات في المناسبات الوطنية، وما زالت ذاكرتي تحتفظ بأكثر من لون مع كل إعادة ترميم، بين اللون الرمادي الغامق، إلى اللون البني الفاتح، وحالياً اللون البني الغامق المائل إلى الاحمرار قليلاً، وهو لون مادة الصاروج المستخدم في البناء، حيث يعتمد اللون على مواصفات المواد المصنّع منه مادة الصاروج وطريقة إنتاجه تقليدياً، والصاروج العماني من الصناعات التقليدية، استخدم منذ القدم في بناء القلاع والحصون والمساجد الأثرية، ومؤخراً أطلقت وزارة التراث والسياحة بالتعاون مع أكاديمية الابتكار الصناعي وشركة إسمنت عُمان منتج "الصاروج العُماني" بعد دراسات استمرت سنوات ليصبح منتجا متاحا بكميات كبيرة، ويتم تسويقه ليستخدم في عمليات الترميم وفي بناء المنازل ولمختلف أنواع العمارة.
يعود بناء القلعة حسب المتداول -دون وجود دليل مادي على ذلك- إلى فترة ما قبل الإسلام، ولكن ليس بشكلها الحالي الذي بلا شك أنه خضع للتجديد والإضافات على مراحل زمنية مختلفة بدءاً من القرن الثاني الهجري/الثامن الميلادي حسب الروايات التاريخية المتداولة، مروراً بالإضافات والتطوير اللاحق في عهد اليعاربة-وهي الفترة التي شهدت قفزة كبيرة في عمارة التحصينات الدفاعية من قلاع وحصون عمّت أغلب ولايات السلطنة، فكان ذلك سمات بارزة لذلك العصر، وفي العهد البوسعيدي شهدت تطوراً آخر لعل أبرز ملامحه بناء السور الخارجي والبوابة في عهد السيد سعيد بن سلطان(1804-1856م).
ما إن يتيمم وجهك شطر ولاية نخل حتى تتراءى لك القلعة من بعيد، التي بنيت فوق ربوة صخرية مرتفعة، ويخيل إليك منظرها وكأنها سفينة عملاقة استوت فوق لجة صخرية، تطاول ما جاورها من الجبال الراسيات التي تحيط بها إحاطة السوار بالمعصم كجبل الشيبة وهو في كبريائه ومهابته، وجبل عاقوم في شموخه وسموقه وجبل البان في أنفته وسموه، وما أن تقترب رويداً رويداً من المدخل الرئيس للولاية لتعبر جسر وادي السبّات حتى تستقبلك القلعة بهيبتها العظيمة، وإن كنت من سكان الولاية، ولا زلت شاباً يافعاً، ولم يتسن لك أن تقرأ في دروس التاريخ حتماً سيخبرك الأجداد لماذا بنيت القلعة في هذا الموقع بالتحديد، وكيف كانت بمثابة الحارس اليقظ، الذي لا ينام، وهو يرصد كل حركة داخلة أو خارجة من البلدة القديمة، سيخبرونك كم استعصت على من حاول دخول البلاد عنوة، وعن برزتها المترعة بقامات الرجال، وبسمت العادات والتقاليد في حضرة الكبار، حيث كانت تعقد فيها الاجتماعات وتناقش القضايا السياسية والاجتماعية، وتحلّ قضايا الناس، وقد ينطق القاضي بالأحكام التي تفصل بين المتخاصمين، ومنها يرسل الوالي العسكر لإبلاغ الأوامر والتوجيهات.. يستحضرون ذكريات ما يعرف تاريخياً بدخلة نخل، وذكريات حصار واليها محمد بن سالم الرقيشي زمن الإمام محمد بن عبد الله الخليلي، كما يستحضرون قسوة البخّار الموجود فيها، أو ما يعرف أيضاً بالمطمرة المكان المخصص داخل القلعة لسجن المدانين في القضايا الكبيرة.
ما أن يلج الزائر القلعة عبر دروازتها، وتبدأ رحلته من الصبّاح الرئيسي حتى ترافقه المتعة فلا يكاد يشعر بالوقت، فسحر هندسة المكان يذكرني بأسطورة الساحرة "سيرين" التي كانت تغوي البحّارة، كذلك هي قلعة نخل بجمالها تغوي الزائرين إليها، فلكل ركن من أركانها قصة وحكاية، تنتقل بين ردهاتها الداخلية الفسيحة المبلطة بالحجارة الطبيعية، وتصعد إلى السلالم المؤدية إلى الغرف والأبراج، ومن على شرفاتها تحاصرك المناظر الخلابة المتشحة بالاخضرار.. المتدثّرة برداء الجمال.. وتطلّ من وسط البساط الأخضر مآذن المساجد وسط النخيل الباسقات، وكأنها صولجان من ذهب وعسجد وزمرّد ... تحاصرك فنون هندسة العمارة الدفاعية وتقنيتها التقليدية، تتنوع بين مساقط ومزاغل ومرامي، وتبهرك فكرة المخارج السرية.. وتتفكّر كيف صممت غرف الإقامة المخصصة حسب فصول الصيف والشتاء، حيث تم اختيار موقعها وتصميم مكان نوافذها بما يتناسب مع حركة دوران الهواء واختلاف اتجاه الريح ومواعيد دخول ضوء الشمس في موسم الصيف وموسم الشتاء..، باختصار كل ذلك يشعر الزائر للقلعة أنه أمام تحفة معمارية فريدة
صور من زيارتي للقلعة