ونحن نعيش أحداث غزة وما يرتكبه الكيان الصهيوني فيها من مجاز وتدمير ممنهج، وقتل للأطفال والنساء، كنت قد تعرفت بالبروفيسور محمد صادق معين، وهو أكاديمي أصله من سكان قطاع غزة كان قد هاجر الى كندا في العام 2005م للتدريس في جامعة شيكاغو وجامعة تورونتو، وهو يحمل وعائلته الجنسية الكندية منذ15 عاما. وقبل عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر الماضي بأيام معدودة، علمت من زوجته أنه دخل غزة عن طريق مصر، وهو حالياً في خان يونس ثاني أكبر مدن القطاع ليكون شاهد عيان على جحيم الإرهاب الصهيو-أمريكي على القطاع.

ما علاقتي بالبروفيسور محمد معين؟ ولماذا أكتب للقراء هذه القصة؟

كنت أبحث عن ممتحن خارجي لرسالة دكتوراة كانت قد انتهت منها الطالبة مريم البرطمانية حول موضوع طريق الحرير البحري بين عُمان والصين وأدواره الحضارية، وبعد السؤال والتقصي وصلتني السيرة الذاتية للبروفيسور محمد صادق من جامعة تورنتو بكندا، كان اختياراً موفقاً فهو عضو في المعهد العالمي للبحوث الاستراتيجية الصينية (CGSRI)، فضلاً عن اهتماماته البحثية في موضوع المبادرة الصينية المعروفة بمبادرة الحزام والطريق (The Belt and Road Initiative ) هذا الطريق الذي يراد منه إحياء طريق الحرير الذي ربط الصين بعواصم العالم من القرون القديمة حتى القرن التاسع عشر، حيث كان يمتد عبر مناطق غرب وشمال الصين وآسيا كلها إلى المناطق القريبة من أوروبا والشرق الأوسط وأفريقيا، وقد ساهم بشكل مباشر في عولمة العالم القديم والوسيط فعبره كانت تنتقل البضائع والأفكار والثقافات، وكان الحرير الصيني ذائع الصيت قوام تجارة ذلك الطريق إلى جانب الخزف الصيني وصادرات وواردات كثيرة تمر عبره.

رحّب البروفيسور محمد بمناقشة الرسالة إلى جانب البروفيسور طارق فتحي سلطان من جامعة الموصل بالعراق باستخدام تقنية الاتصال عن بعد عبر تطبيق Google Meet)) وتم الاتفاق على تحديد يوم 30 من أكتوبر موعدا للمناقشة، ولأن الدكتور يعيش في كندا وباحتساب فارق التوقيت 8 ساعات تقريبا مع توقيت مسقط كان التوقيت المناسب له سيكون الساعة: 9 صباحاً، الساعة 5 عصراً بتوقيت السلطنة. وقبل أسبوع من المناقشة تواصلت مع البروفيسور محمد للتأكيد على الموعد والتوقيت فأخبرني أنه موجود في إحدى المدن العربية وأن توقيت الساعة:11 صباحاً سيكون مناسباً له.

وفي مساء يوم 28 أكتوبر، جاءني اتصال خارجي من رقم غريب فلم أرد عليه، ثم وصلتني رسالة عبر الواتساب هذا نصها؛ "السلام عليكم دكتور علي رئيس قسم التاريخ، اتصل بي زوجي الدكتور محمد معين صادق ليبلغكم أنه في غزة قادما من القاهرة قبل الحرب بيومين لعمل بحث علمي ميداني وكان على أساس أن يشارك في مناقشة طالبة دكتوراه لكن اتصالات العالم مع غزة  انقطعت لذلك هو يعتذر عن المشاركة في المناقشة لعدم قدرته على التواصل معكم لذا يرجى التصرف في ضوء ذلك وإيجاد البديل إذا أردتم وندعو له بالخروج من غزة بالسلامة مع تمنياتي لكم بالتوفيق".

كان الخبر مقلقاً لسلامته أولاً وسيترتب عليه ثانياً تأجيل موعد المناقشة إلى أجل مسمى، لكن في صباح يوم الأحد 29 أكتوبر وصلتني رسالة منه تخبرني بعودة الاتصالات والكهرباء بشكل متقطع الى القطاع، وبعد الاطمئنان على سلامته أرسل لي: "الله يسلمك يا دكتور علي، والله رغم المأساة والخطر الذي حولي لا أفكر إلا في اتمام مهمتي معكم وسوف أبذل كل جهدي غدا لتوفير خط كهرباء خاص وخط نت خاص كما فعلت عندما  اتصلت بزوجتي بخط خاص لإبلاغكم بوضعي، سأبدأ غدا بتشغيل خط الكهرباء والنت للاحتياط قبل ساعة من المناقشة اي ابتداءً من الساعة العاشرة صباحا بتوقيت سلطنة عمان الشقيقة".

في يوم المناقشة 30 أكتوبر وبحسب التوقيت المحدد كان البروفيسور محمد خارج التغطية وهذا متوقع في ظل استمرار القصف الغاشم على غزة، وبالاتفاق مع رئيس الجلسة الدكتور مصعب محلا والمشرفة على الرسالة الدكتورة فاطمة بلهواري، ارتأينا أن ننتظر ساعة أخرى أي في تمام الساعة: 12 ظهراً وفي حال لم يرد سنتخذ قراراً بالتأجيل، لكن قبل ثلث ساعة وبالتحديد وصلتني رسالة منه: "هلا دكتور علي عندي مشكلة فنية أحاول حلها اعطيني نصف ساعة إضافية"، وفي تمام الساعة: 11:45 تمكّنّ البروفيسور محمد من دخول رابط المناقشة، حيث قدم ملاحظاته حول الرسالة مصحوبة بالعديد من التساؤلات المنهجية ومشيداً بجهد الباحث ولجنة الإشراف على الرسالة.

ما أود قوله هنا وفي ضوء ما سبق، وما أبهرني حقاً اهتمام البروفيسور محمد بأداء مهمته بمهنية عالية في هذا الظرف الصعب وقد أخبرنا أن صوت طائرات الاستطلاع وقاذفات اللهب تحوم في سماء القطاع وفي مدينة خان يونس التي يوجد فيها، ونحن نعلم كيف أن الكيان الصهيوني كان يقصف المنازل والبنايات ويحولها الى أنقاض بمن فيها من السكان المدنيين دون أدنى رحمة أو شفقة.. ما أبهرني أنه كان يؤدي مهمته دون خوف أو قلق وكأنه كسائر سكان غزة قد تدثّروا بالصبر وآمنوا بالقدر خيره وشره امتثالا للحديث الشريف المأثور:” أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك ". وقد سبق وأن رأينا قبل أيام عندما فقد مراسل الجزيرة وائل الدحدوح واستشهاد زوجته وابنه وابنته وحفيده ثم في أقل من 24 ساعة عاد إلى الشاشة بكل مهنية لينقل جرائم الاحتلال الصهيوني من قلب الحدث.

إن هذه القصص البطولية التي يقدمها أهل غزة هي من الدروس البليغة التي يجب أن تدرّس، فهم قدوات في الصبر والمقاومة والفداء، وفي أداء الواجب أياً كان هذا الواجب، ومن يكون هذا ديدنه وهذه أخلاقه فلا خوف عليه وهي رسالة عظيمة تستحق أن تكتب وتروى للتاريخ...

--:--
--:--
استمع للراديو